في الاقتصاد المعرفي تتحوّل معظم الأعمال الجسدية إلى ابتكارات عقلية، ليصبح الإنتاج الوطني معتمداً على الفكر والإبداع والمعلومات، وليس على النفط والغاز والفحم والعضلات، وتصبح المعرفة أساساً في تطوير الأعمال وركيزة لتنويع مصادر الدخل.
في الشهر الماضي احتفلت دول العالم بمهندس الفيزياء البريطاني "تيم بيرنر لي" الذي دخل بوابة التاريخ في خريف 1989 لدى اكتشافه الشبكة العنكبوتية للإنترنت، عندما كان طالباً في مركز "سيرن" لأبحاث المسَّرعات الفيزيائية بمدينة جنيف.
بعد أيام معدودة من هذا الاكتشاف بادرت دول العالم باتخاذ الخطوات المتسارعة لتحقيق مكاسب الاقتصاد المعرفي، التي قدرتها الأمم المتحدة اليوم بأكثر من 7% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وتنمو بمعدل 10% سنوياً.
خلال أعوام معدودة تصدَّرت ماليزيا وتايلاند وسنغافورة وكوريا الجنوبية جبهة الاستفادة من مزايا الاقتصاد المعرفي، فأصدرت حكوماتها قراراً إستراتيجياً طموحاً يقضي بتأمين عشرات الملايين من الحواسب الآلية كل عام لمدة عشرة أعوام قابلة للتجديد بهدف تزويد طلاب مدارسها بأحدث أجهزة الكمبيوتر.
كان هذا القرار بمثابة ضمان واضح للشركات العالمية التي هرعت إلى هذه الدول وأمطرتها بطلبات الاستثمار لتصنيع هذه الأجهزة. وسارعت في ركابها المصانع العالمية المنتجة لبرامج المعلوماتية لتواكب تصنيع البرامج الخاصة بها.
كانت نتائج قرارات هذه الدول الحاسمة مبهرة حقاً. في خلال 5 أعوام انخفضت أسعار أجهزة الحاسب الآلي في أسواقها بنسبة 75% وتراجعت تكاليف إنتاج برامجها بنسبة 50% وتضاعفت صادراتها من هذه الأجهزة والبرامج بنسبة 600%. خلال تلك الفترة ارتفعت نسبة توطين العمالة الماليزية بنسبة 300% والتايلندية 200% والسنغافورية إلى أكثر من 140%.
كما بادرت ماليزيا بتنفيذ مشاريع الأروقة الذكية فائقة السرعة، وأطلقت سنغافورة مفهوم المدن المثالية عظيمة الكفاءة، وأسست كوريا الجنوبية البنية الرقمية التحتية عالية السعة، لتصبح هذه الدول محطاً عالمياً للابتكار ومركزاً جاذباً للاستثمار، وموئلاً لتطبيق مبادئ التسوق عن بعد، والعلاج عن بعد، والتعليم عن بعد، والبحث والتطوير عن بعد.
هذه الدول لم تنتظر حتى تُمطر سماؤها ذهباً، فضةً أو نفطاً، لتحصد أرباح المساهمات العقارية وتثري شعوبها من مضاربات الأسهم المناخية، بل بادرت إلى استغلال المعرفة وتوطين التقنية والاستفادة من مزاياها النسبية لرفع مستوى القيمة المضافة المحلية، فتربعت عرش علوم الحاسوب والتقنية المعلوماتية وغدت نداً قوياً في صراعها مع الدول الصناعية الكبرى ومنافستها على الابتكار والإنتاج والتصدير.
في مؤتمر الاقتصاد المعرفي المنعقد في روما خلال العام الماضي تفاخرت هذه الدول بخطط نجاحها أمام العالم، مثل تسارع معدلات الإنتاج وتحسين نوعيته، وإسهامه في تعزيز الكفاءة الاقتصادية وانعكاساته على ارتفاع مستوى معيشة المواطن ورفاه الشعوب. وأكد مؤتمر روما على أن التعاملات الإلكترونية هي من أهم مقومات الاقتصاد المعرفي، لكونها تنتقل عبر الحدود لتتيح الفرصة المثلى لكافة شرائح المجتمع في الاطلاع على الإنجازات في المجتمعات الأخرى، وبالتالي تعظيم فرص المعرفة والابتكار في المجال الاقتصادي.
لذا على الرغم من شح مواردها النفطية استطاعت هذه الدول النامية تحقيق النتائج الباهرة في مجال الاقتصاد المعرفي، ونجحت في إيجاد العديد من فرص العمل لمواطنيها، وكسب المزيد من تدفق رؤوس الأموال الأجنبية، وأضحت الاتصالات وتقنية المعلومات مكوناً رئيساً في هيكل صادراتها، ومن المتوقع أن تستمر هذه الدول في نموها لتغدو أهم دول العالم في الاقتصاد المعرفي في المستقبل المنظور.
أما بالنسبة للدول الخليجية، فبالرغم من الإنجازات التي تحققت في مجال الاتصالات وتقنية المعلومات، إضافة إلى التعليم والتدريب على التقنيات الحديثة في مختلف قطاعات المجتمع، والعمل الدؤوب لترسيخ مفهوم التعاملات الحكومية الإلكترونية، إلا أن هذه الدول ما زالت في المراحل المبكرة للانتقال إلى الاقتصاد الرقمي.
والسبب أن المجتمع المعرفي ما زال بانتظار تعميم ثقافة التعاملات الإلكترونية بين صفوفه من خلال تنفيذ ثلاثة أهداف رئيسية، أولها توفير البنية التحتية للاتصالات الرقمية، وثانيها توعية المجتمع وتعزيز ثقته وقناعته بجدوى التعاملات الإلكترونية، وثالثها توفير أدوات ووسائل تقنية المعلومات والاعتماد على الإبداع والابتكار في مؤسسات التعليم، بدلاً من التعليم التقليدي القائم على الحفظ والتلقين.
التقرير السنوي للاتحاد الدولي للاتصالات، الصادر في نهاية عام 2015 تحت عنوان "تقرير قياس مجتمع المعلومات"، تضمن مجموعة الدول الأكثر نشاطاً في تقنية المعلومات، وجاءت السعودية والبحرين والإمارات وقطر وعُمان كأفضل خمس دول عربية ومن بين أفضل 166 دولة عالمية في هذا التقرير، وهو مقياس مركب يقوم بتصنيف الدول وفقاً لمستويات نفاذ الاتصالات وتقنية المعلومات واستخداماتها ومهاراتها.
وأوضح التقرير أن التحوّل للاقتصاد الرقمي يتطلب ضرورة نشر ثقافة تقنية المعلومات والاتصالات لجعلها أداة في متناول الجميع. وهذا لن يتم إلا من خلال تأسيس برنامج وطني مشترك للحكومة الإلكترونية، وتوفير البيئة القانونية والتنظيمية المحفزة والمنظمة للتعاملات الإلكترونية وتقديم خدماتها بأسعار مناسبة.
ومن أجل تعميم الاقتصاد المعرفي علينا توفير نظام الحوافز في القطاع الخاص لتشجيعه على إنتاج سلع تقنية المعلومات ووسائطها لتصبح المحرك الرئيسي للاقتصاد الرقمي، إضافةً إلى إنشاء صندوق استثماري لجذب الشركات الكبرى للمساهمة في تسريع عجلة النمو وتطوير رأس المال البشري المتمثل بمجتمع المعرفة والتدريب والابتكار، وتطويع وسائل التعليم لصالح الاقتصاد المعرفي.
وعندما نبدأ باستخدام عقولنا بدلاً من عضلاتنا نستطيع الاستغناء عن إدمان النفط وتحقيق أهدافنا.
نقلا عن الوطن