للمرة الألف: الحوكمة والإفصاح وأموال المتقاعدين

05/06/2016 3
د. إحسان بوحليقة

الحديث عن أموال المتقاعدين ليس جديدا، بل متقادم ومكرور. ومن ذلك ما عُرِضَ في هذا الحيز قبل نحو ثلاث سنوات، من أن لحوكمة صناديق التقاعد الخاصة والعامة قواعد مستقرة هي محل اهتمام الدول والمنظمات العالمية والاقليمية والنوادي الاقتصادية المؤثرة مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

لكننا لم نتحرك قيد أُنملة في ذلك السياق، فبقيت صناديق التقاعد مصمتة لا تنفذ لها الشفافية، ولا يشملها الإفصاح، على الرغم من أنها ذات صلة بملايين المستفيدين من مشتركين ومستفيدين، ولضخامة الأموال التي تديرها تلك الصناديق.

فهل حوكمة صناديق التقاعد عندنا بحاجة لإعادة نظر؟ قبل ذلك، هل صناديق التقاعد هي صناديق سيادية بحيث تعتبر دفاترها المحاسبية محصنة؟ وهل هي أكثر حساسية من دفاتر مؤسسة النقد العربي السعودي التي تعلن قوائمها المالية؟

بالقطع لا، فأموال الصناديق السيادية مصدرها فوائض الخزانة العامة، في حين أن أموال صناديق التقاعد فوائض اشتراكات الموظفين (أنت وهي وهو وهم ونحن)، في القطاعات المختلفة حكومية وخاصة.

الافصاح مطلوب في الصناديق جميعا، لكن التكتم على بيانات وحسابات وأرصدة واستثمارات الصناديق التقاعدية أمر ليس له ما يبرره ألبتة.

في نظامي التقاعد العام والتأمينات تساند الدولة -رعاها الله- الصندوقين، باعتبارها الضامن لهما في حال قصور قدرتهما عن الوفاء بالالتزامات، لكن من غير المفهوم عدم الافصاح عن: القوائم المحاسبية، والحسابات الختامية، والتدفقات النقدية، والمحافظ الاستثمارية للصناديق التقاعدية.

وغير مفهوم كذلك لم لا تعامل تلك الصناديق -فيما يخص الافصاح- معاملة الشركات المساهمة العامة؛ فعدد المشتركين والمستفيدين من صناديق التقاعد أكبر من عدد المساهمين في أي شركة سعودية مدرجة في سوقنا المالية؟

وإضافة لنشر القوائم المحاسبية الختامية سنويا، فمهم نشرها فصليا، ونشر تقرير سنوي (مسهبٌ مسهب) يُبين التفاصيل المتعلقة بالادارة والعمليات وكل ما يستوجب الإفصاح، بل ويجب أن يُعَدّ ذلك التقرير وفق أحدث ممارسات التقارير التكاملية (INTEGRATED REPORTING)، وليس مجرد تقرير جامد موجز محشو صورا مع جمل عامة لا تنطوي على تفاصيل ذات صلة باللب.

إذ ليس خافيا أن أعمال صناديق التقاعد لا تنطوي على أي معلومات حساسة تستوجب أن تُكتم، فهي مؤسسات: تجمع اشتراكات، وتوزع رواتب تقاعدية، وتستثمر الفوائض. وهكذا، نجد أنها مؤسسات مالية يحكمها نظام متخصص.

ولا أجد ما يجعلها -فيما يتعلق بالافصاح- أكثر حساسية من البنوك التجارية، ومع ذلك فبنوكنا التجارية تُفصح عن أرباحها وخسائرها وأنشطتها كل ثلاثة أشهر، وتوزع تقارير سنوية كل عام، وتتابعها مؤسسة النقد العربي السعودي وفقا لنظام مراقبة البنوك، وتنشر العديد من مؤشراتها وبياناتها ضمن تقارير ونشرات المؤسسة!

قد يقول قائل إن صناديق التقاعد تخضع لرقابة ديوان المراقبة العامة، وهذا قول صحيح لا شك، لكن ديوان الرقابة العامة معني بالتدقيق والمراجعة وليس بالافصاح. وقد يسأل أحدهم: ولم الافصاح؟ والاجابة: لم لا؟!

بل ان القواعد المعمول بها في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تعتبر الافصاح مرتكزا، وعندما يتعلق الأمر بمعلومات تتعلق مباشرة بملايين الأشخاص فالأصل اشهار تلك المعلومات لهم وليس اخفاءها، وإن وجدت جزئيات تمثل حساسية من نوع أو آخر قد تمس مصالح البلاد فلا بأس بحجبها استثناء.

وتحت أي اعتبار، وسبق تناول الأمر هنا كذلك منذ سنوات، أنه لابد (سواء عملنا بالإفصاح أم استمر العمل بدون افصاح) على كل حال من الفصل التام بين الجهاز التنفيذي والهيئة المهيمنة (مجلس الإدارة)، وليس أقل من ألا يكون كبار التنفيذيين في الصناديق أعضاء في تلك المجالس تحقيقا لفصل الأدوار، ولتحصين مجلس الإدارة ليس من المسئولية ولكن من مباشرته للتنفيذ والتشغيل.

وهذه ممارسة حَوكَمية معمول بها على أوسع نطاق عالميا، من منطلق الفصل بين الإدارة والسلطة المهيمنة التي تمثل المالك.

في صناديق التقاعد، هناك حاجة لطرح الأسئلة من خارج مجلس الإدارة، أي من عموم أصحاب العلاقة من المتقاعدين والمشتركين، وهذا لن يتحقق إن لم تتوافر المعلومات ويفصح عنها منهجيا ومهنيا. وقد ترشدنا الممارسات الدولية للارتقاء بحوكمة صناديقنا التقاعدية.

ولعلنا بحاجة مسيسة لأن تعمل الصناديق التقاعدية وفق لوائح حوكمة واضحة ومُقَرّةٌ من سلطة أعلى من مجلس إدارتها، وتحديدا مجلس الشئون الاقتصادية والتنمية ومجلس الوزراء.

ولعل من الملائم إصدار لائحة حوكمة ليصبح لزاما أن تعمل وفقها صناديق التقاعد السعودية، ولا بأس أن تكون نقطة البداية لائحة الحوكمة الصادرة عن هيئة السوق المالية، فهي مُجَربةٌ وفعالة، مع ادخال تعديلات إضافية عليها لتصبح أكثر ملاءمة لطبيعة صناديق التقاعد.

وكذلك تطبيق قواعد الإفصاح التي يشملها نظام الشركات السعودي وكذلك لوائح هيئة سوق المال، بحيث لا تقل معايير الإفصاح التي تلتزم بها الصناديق التقاعدية عن تلك التي تلتزم بها الشركات المساهمة العامة المدرجة.

نقلا عن اليوم