من علامات النجاح المالي لـ«سابك» أنها ضخت لخزانة الدولة ما يزيد على 80 مليارا مقابل رأس مال لا يتجاوز عشرة مليارات، وهذا بالتأكيد استثمار ناجح وحتى تحقق بلادنا هذا النجاح، كان عليها تقديم الكثير؛ من استثمار هائل في البنية التحتية الصناعية، ومن تفويت دخل على الخزانة العامة بتقديم اللقيم بأسعار أكثر من تشجيعية.
لكن نجاح قصة سابك لا ينتهي عند الأرباح على الرغم من ضخامتها، كما أن القصة لا تبدأ بها، بل تبدأ بالحضن «الحاني» الذي غُرست فيه بذرة سابك، الهيئة الملكية للجبيل وينبع. كانت البداية قبل أربعة عقود، كنت حينئذ طالباً في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، ولم أك أسمع بالجبيل إلا لماماً، وبالفعل كانت مرتبطة بالصيد، وبأسر «أجودية» تُكرم الضيف وترتبط بأفضل الروابط مع مَن حولها، لكني حتى ذاك التاريخ لم أزر تلك البلدة المرتمية بدعة وعنج على ساحل خليجنا العربي، ثم ما لبثت أن بدأت فرص توظيف جديدة تخرج للسطح، لتجلب معها حيرة لمن هم على وشك التخرج؛ إذ كانت أرامكو -آنئذ- هي الجهة المفضلة تقليدياً لخريجي الجامعة، بعدها قطاعات الحكومة المدنية أو العسكرية، وبالفعل انضم أحد الخريجين من دفعة سابقة لدفعتي للهيئة الملكية وتبعه اخرون، وبقي صديقي هذا يتدرج حتى أصبح من القيادات وكذلك تبعه اخرون.
ومؤخراً، تقاعد زميلي هذا، بعد أن قضى كل حياته الوظيفية مع الهيئة الملكية للجبيل وينبع، ليراكم خبرة ومعرفة هائلة في إدارة المدن الصناعية والتقنية، وقد تقاعد وهو خبير في مجاله لا يُبارى! لكنه تجاوز الستين، والنظام نظام!
يمكن بيان أن نجاح الهيئة الملكية لم يك ضربة حظ، بل بتهيئة الأسباب في منظومة محكمة، لتكون بنية تحتية للصناعة التحويلية، وتحديداً البتروكيماويات السلعية، معتمدة على استغلال ما كان يحرق من غاز مصاحب باستخدامه كلقيم، وأيضاً دخول الحكومة -عبر سابك- بقوة لعقد شراكات مع الشركات الرئيسية في العالم. وفي غضون سنوات من انطلاقة الهيئة بدأت تظهر معالم المشاريع الضخمة، ولم تك مجرد هياكل معدنية هائلة، فخلف كل منها جيش من المهندسين والفنيين، شريحة مهمة منهم من السعوديين، الذين تنقلوا في أنحاء المعمورة ليجلبوا الأفضل لبلدهم، وبالفعل بدأت المصانع تنتج لتدور معها عجلة التنويع الصناعي السعودي بسرعة واقتدار ملفت، حتى أن الصحف العالمية التي كانت قبل سنوات تتهم السعوديين بأنهم قد بالغوا في أحلامهم الصناعية وجرأتهم، أخذت تغطي الإنجاز الجديد بانبهار. وأصبح لدينا جيش جرار من الفنيين والمهندسين والمدراء على أعلى مستوى، تقنياً وفنياً وتشغيلياً وإدارياً، ولا سيما في إدارة المشاريع العملاقة والمعقدة وذات المخاطر العالية، ممن أثبتوا جدارتهم عشرات المرات، فأكملوا مشاريعهم في وقت أقل من المقدر، وتكلفة أقل من الميزانية! أين هم الآن؟ العديد منهم تقاعد، وتقاعدت معه خبرة عقود متتابعة لا تقدر بثمن!
الهيئة الملكية للجبيل وينبع ملحمة نجاح، كبنية تحتية، وكمشاريع إنتاجية. أقول قصة نجاح، ولا أقول انها لم تكابد ولم تمرّ بصعوبات وتحديات. لقد قام عليها فكرّ نيّر متقدم واستراتيجي، لم ينشغل بالماضي ولا بالمثبطين ولا بالجبال الشامخة من التحديات، فأصبحت: حضناً وحصناً للصناعة الوطنية، ومثالاً يحتذى في كيف ننوع اقتصادنا عملياً، وكيف ننجح ونصبح رقماً مهماً في صناعة البتروكيماويات، وكيف نفعل ذلك بمساهمة فعالة وجوهرية بأيدٍ سعودية. والسر -في ظني- توفير كل متطلبات النجاح كمنظومة متكاملة، وإصرار لا ينثني لتحقيق الهدف المرسوم.
قصة النجاح هذه تستحق أن توثق في كتاب رصين، وتُحَلل منهجياً من النواحي الاستراتيجية والهندسية والاقتصادية والإدارة وريادة الأعمال، وتدرس في جامعاتنا، وقبل ذلك للقياديين وكبار التنفيذيين في الحكومة والقطاع الخاص، حتى لا يعيدوا اختراع العجلة، وحتى يحرصوا على مجاراة جيل من العمالقة.
قبل ما يزيد على سنة لاحظت في مؤتمر للصناعات التحويلية عُقد في ينبع، كيف كان المحاضرون يخرجون الواحد تلو الآخر يعرضون أفكارهم ومشاريعهم المبدعة والمشبعة بالتحديات كذلك، ما خطر لي آنئذ أننا أمام الهيئة الملكية-الجيل الثاني، أي ما بعد الصناعات التحويلية الأساسية والمساندة لها، وأن الطريق الصعب نحو صناعات البتروكيماويات المتخصصة، قد أخذت معالمه تتضح أمامنا، وبالتأكيد الأمر ليس نزهة، بل لعله تحدٍ يتجاوز ما سبقه.
القصد، أن قصة النجاح حتى تستمر عليها ألا تتثاءب، بل أن تنتقل بسلاسة وثبات من مرحلة لأخرى، وهذا ما نلاحظ من أن الهيئة انطلقت من جبيل-1 إلى جبيل-2 ومن ينبع-1 إلى ينبع-2، وكُلفت برأس الخير للصناعات التعدينية، وهذا تحدٍ جديد في صناعة عملاقة مازال اقتصادنا السعودي على اعتابها، ففي السابق كانت «الدعوة» اسمنت وكسارات، مع التقدير لكل الجهود، وثبتنا على ذلك لسنوات، حتى أخذت قصة «سابك» تستنسخ -مع التعديل والتطوير- من خلال شركة «معادن»، لكن بعد مخاض استمر سنوات، حتى صدر القرار بأن يساند صندوق الاستثمارات العامة شركة «معادن» مساندة لا هوادة فيها، والقرار هو الشراكة الاستراتيجية بين الهيئة الملكية وشركة معادن، والجميع يتطلع لنجاح جديد لاقتصادنا الوطني في قطاع التعدين. وبعد ذلك صدر قرار أسند إدارة مدينة جازان الاقتصادية للهيئة الملكية.
ومع كل ذلك، ومع تخطي الهيئة الملكية للأربعين، أعاود طرح سؤال: لِمَ لا تكون الهيئة الملكية ليس فقط للجبيل وينبع بل لكافة المدن الصناعية والتقنية؟ ولِمَ لدينا هيئة ملكية وهيئة للمناطق الصناعية (مدن)؟ وطرح السؤال ليس موجبه الخوف من تعدد الهيئات، بل (1) انشطار امكانات توفير البنية التحتية الصناعية، وتوفير هذه البنية يمثل نقطة التطابق بين تكليف الهيئتين، وقد يثبت من الدراسة أن لا مجال لدمجهما أو العكس، (2) ليصبح تكليف الهيئة الملكية يغطي البلاد من أقصاها لأقصاها فيما يتصل بتوفير ورعاية البنية التحتية الصناعية وتوفير ممكنات الصناعة التحويلية إجمالاً، لتتكرر قصة نجاح الجبيل وينبع في جوانب المملكة، سواء أكانت مطلة على البحر أو غير مطلة.
نقلا عن اليوم