منذ الأزمة المالية العالمية في نهاية عام 2008، اتضحت معالم جديدة في المشهد الاقتصادي العالمي، كان من أهمها الفوضى التي طاولت النظام المصرفي بعدما تراكمت ديون صعبة لدى الكثير من البنوك نتيجة سياسات الإقراض المتساهلة وعدم الانضباط في توريق تلك الديون وإعادة بيعها وتداولها بين المصارف والمؤسسات المالية.
كما تضح أن الكثير من المقترضين، خصوصاً في قطاع السكن الخاص، لم يملك الجدارة الائتمانية والتي تؤهل للاقتراض من أجل اقتناء المساكن.
هذا ما حدث في شكل واضح في الولايات المتحدة وأدى إلى أزمة الرهن العقاري. لكن أهم من ذلك ما تبين في أوروبا حيث طاولت الأزمة بلداناً عدة من خلال الديون السيادية بعدما تجاوزت الحكومات الخطوط الحمر واقترضت من أجل تمويل عجز الموازنات نتيجة تهاونها في معالجة الإنفاق الكبير خصوصاً في مجال التحملات الاجتماعية.
أدى ذلك إلى بلوغ بلدان مرحلة العجز عن سداد الالتزامات، كما حدث لليونان، ما أدى إلى استنفار الاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد، لتوفير الإسعافات وتعويم تلك الحكومات.
وبلغ عجز الموازنات في بلدان مثل اليونان وإيطاليا وإسبانيا وإرلندا مستويات قياسية، بعدما تراوح بين 8 و14 في المئة من الناتج.
ومعروف أن اتفاقية «ماسترخت» التي تم بموجبها تطبيق اتفاق الوحدة النقدية وإطلاق حملة اليورو تؤكد على ألا يتجاوز العجز مستوى الثلاثة في المئة من قيمة الناتج. كما أن الديون السيادية المتراكمة نتيجة لتمويل العجز، بلغت مستويات قياسية تراوحت بين 135 و200 في المئة من قيمة الناتج.
تمكنت الولايات المتحدة في السنوات الثماني الماضية، وهي سنوات حكم الرئيس أوباما، من تطبيق سياسات مالية واقتصادية رشيدة، ما أعاد الأوضاع إلى مسارات مقبولة. وتمكنت الإدارة من تشريع قوانين وأنظمة لحماية النظام المصرفي وعملت على توفير تمويلات للمؤسسات المالية والصناعية لتمكينها من ترتيب أوضاعها.
خلال هذه السنوات تمكن الاقتصاد الأميركي من تفعيل حيويته، ومن أهم ما تحقق القدرة على خلق الوظائف، خصوصاً في قطاع الخدمات، والتي تراوحت بين 200 و250 ألف وظيفة شهرياً.
لكن قطاعات أخرى أساسية مثل قطاع الصناعات التحويلية ما زال يشكو تراجع الأداء ومعاناة العاملين فيه، وقد فقد الكثير منهم وظائفه.
ولا شك أن أوضاع الصناعات التحويلية في الولايات المتحدة هي نتاج طبيعي ومتوقع للتحولات الاقتصادية العالمية، على مدى العقود الماضية، حيث فقد الكثير من الصناعات ميزاته النسبية لأسباب من أهمها ارتفاع تكاليف اليد العاملة وأعبائها الاجتماعية.
لذلك ليس من المستغرب أن تواجه فلسفة التجارة الحرة والاتفاقات التي تعقدها أميركا مع الكتل الاقتصادية والدول معارضات واسعة من السياسيين، خصوصاً في موسم الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل.
لكن من سمات الأوضاع التي استجدت بعد الأزمة المالية العالمية، تلك المتعلقة بالسياسات النقدية حيث عمد صناعها في البنوك المركزية، ومنها بنك الاحتياط الفيديرالي، إلى تبني خفض الفوائد المصرفية إلى مستويات متدنية جداً واعتماد سياسات التيسير الكمي.
اتسمت السياسة النقدية التي اتبعت في أوروبا من قبل البنك المركزي، أيضاً بالتساهل في محاولة لتعزيز مختلف الأنشطة الاقتصادية وتخفيف العبء عن المقترضين، حكومات ومؤسسات وأفراداً.
كما أتبع البنك سياسة التيسير الكمي بهدف توفير السيولة في الأسواق المالية. وقارب سعر الخصم الصفر تقريباً لكن ذلك لم يدفع إلى تحسين معدلات النمو، خصوصاً تلك التي تعاني من أزمات مالية.
وهناك مؤشرات لتحسن في الربع الأول من هذا العام حيث بلغ معدل النمو 0.4 في المئة أي ما يمكن أن يصل إلى 1.6 في المئة هذه السنة. وتواجه اليابان ركوداً مزمناً منذ تسعينات القرن الماضي، وقامت بتبني سياسات نقدية مشابهة بعدما أكدت البيانات تواضع معدل النمو والذي قدر بـ0.5 في المئة عام 2015.
لذلك فإن سعر الخصم الذي اعتمده بنك اليابان حدد بـ0.3 في المئة في آذار (مارس) الماضي. وتواجه السلطات النقدية مسألتين مهمتين هما ارتفاع سعر صرف الين، والتضخم، خصوصاً أن اليابان بلد يعتمد على التصدير ومن المهم أن يكون سعر الصرف مناسباً لتمكين السلع والبضائع اليابانية من المنافسة في الأسواق.
أما مسألة التضخم فتشبه ما يعاني منه الأوروبيون حيث تنخفض معدلات التضخم وهي دون المعدل المستهدف والمحدد بـ2 في المئة. هذه المسألة المتعلقة بالتضخم هي نتاج تراجع مستويات الاستهلاك في اليابان بعدما ارتفعت نسبة السكان الذين تجاوزوا الـ 65 وتراجع النمو السكاني.
هناك معالم أخرى في المشهد الاقتصادي العالمي أهمها تراجع معدل النمو في الصين، وبروز مشكلات أساسية في بنيتها الاقتصادية.
وقد حذر صندوق النقد الدولي من أن أزمة الاقتصاد الصيني يمكن أن تؤدي إلى ركود واسع النطاق في العالم. وقد أتضح أثر الأوضاع الصينية في أسواق المال مطلع السنة، بعدما تراجعت المؤشرات في شكل كبير.
أما أهم معالم التغيير بالنسبة للعرب، والخليجين بخاصة، فهو تراجع أسعار النفط واحتمال ألا يتجاوز سعر برميل النفط 50 دولاراً.
فكيف يمكن أن تواجه البلدان العربية متطلبات الإنفاق الجاري والتنموي خلال السنوات المقبلة اعتماداً على إيرادات متراجعة؟ هل يمكن أن تتغير مفاهيم العمل الاقتصادي في هذه البلدان وتبدأ الإدارات تبني سياسات إنفاق رشيدة وفلسفات اقتصادية مختلفة؟
نقلا عن الحياة