ظهرت في الآونة الأخيرة موجة متصاعدة من الطروحات المتواترة حول فاتورة الاستشارات الاقتصادية والمالية لبعض الشركات الأجنبية وتحديدا «ماكينزي» تم من خلالها إيراد أرقام ضخمة لقيمة لهذه العقود المالية والتي لم تكن صادرة من هذه الشركات ولا من الجهات الحكومية المتعاقدة معها، وإنما كانت تقديرات مصدرها وكالات أجنبية فقط.
وجاء ضمن هذه الطروحات إنه كان ينبغي الاستعانة بأفضل الخبراء في الجامعات السعودية لتكوين فريق استشاري بديل يقوم بهذا الدور دون الحاجة إلى مثل هذه الشركات الأجنبية !!
حتى وإن كنت تختلف معها، فهي وجهات نظر جديرة بالاحترام والتعاطي، لولا أن بعضا منها لا يحمل وجهة نظر مضادة فحسب، وإنما تحمل ما بين السطور تشكيكا بهذه الشركات الاستشارية حينا وبقيمة هذه الدراسات حينا آخر وبالفكرة من وراء التعاقد معها ثالثا وهو ما قد يثير قدرا لا يستهان به من الارتياب في الأسس والمرتكزات التي تقوم عليها هذه الخطط والإستراتيجيات برمتها.
لست وكيلا عن هذه الشركات الاستشارية ولا محاميا عن الجهات الحكومية التي تعاقدت معها، بل وأعتقد جازما أن الحوار حول الإطر الحاكمة لهذه الرؤية وطرحها للنقاش أمر صحي بل ومطلوب أحيانا وهو حراك يصب في مسألة تأهيل وإنجاح أي مشروع وطني بهذا الحجم، لكن ولكوننا نؤسس لمرحلة غير اعتيادية ونتحدث عن إعادة إنتاج لاقتصاد برمته بكل ما يحمله من تناقضات الماضي وتطلعات المستقبل، فينبغي أن لا نستغلي قيمة هذه الدراسات لإعادة هندسة اقتصاد برمته يتطلع للوصول إلى 6 تريليونات ريال وتخصيص شركة نفطية هي الأكبر في العالم أجمع، لا مجال فيه للخطأ، وأن نقول للعامة بدلا من ذلك بأن جامعاتنا قادرة على التصدي لهذه المهمة وهي لم تشارك قط في الشأن التنموي ولم تقدم ما يشفع لها من دراسات وأبحاث ومشاركات، فكيف بدراسات ومشاريع بهذا الحجم وعلى هذا النحو من التعقيد والتحولات الإستراتيجية، ثم ماذا قدمت هذه الجامعات من حلول تنموية من قبل، وهي عاجزة أصلا عن القيام بدورها الأساسي عدا جامعة واحدة فقط.
كل شركات ومنظمات ودول العالم تستعين بهذه الشركات الاستشارية، فسوق الاستشارات العالمي ينمو سنويا بنسبة 9 % ورغم ذلك لم يعده أحد ترفا دوليا كما نفعل، فقد بلغ حجم هذا السوق 115 مليار دولار عام 2014م وهذا يعني أن نصيبنا منها لم يصل إلى 1 % حتى في حالة اعتبار أرقام تلك العقود الضخمة صحيحة.
ما العيب أن نستعين بأفضل شركة مصنفة في العالم في مجال الاستشارات، مثلما نستعين بالشركات والمؤسسات والوكالات والمنظمات والمكاتب الدولية في كل جوانب الحياة التعليمية الصناعية والصحية والهندسية والغذائية وغيرها والتي تشكل فاتورتها اليوم أكثر من نصف الناتج القومي للبلاد، هل وقفت المسألة على «ماكينزي» واستشاراتها خصوصا في مثل هذه المرحلة الانتقالية والمفصلية، وما الذي يمنع أن تتضافر جهودها وخبراتها مع جهود وخبرات نظرائها السعوديين في الوزارات والهيئات المحلية.
أطلع دائما على الكثير من الدراسات التي تصدرها مؤسسات وهيئات ومكاتب استشارات محلية سواء أكانت حكومية أو خاصة والتي لا يمكن - في أدبياتنا - أن تقول لك الحقيقة كاملة أو أن تسمي الأشياء بأسمائها، بل وتتحاشى أحيانا ذكر بعض الحقائق والأرقام وتتجنب الإتيان على بعض مؤشراتها ونتائجها وأسبابها كما يجب وذلك في انتقائية عجيبة قد تخل بالجانب المهني، فيصبح التقرير أو الدراسة مسخا بالكامل وهذه ربما واحدة من أسباب عدم تشخيص الأسباب بشكل صحيح ومباشر وبالتالي فشل مثل هذه الخطط المتعاقبة.
أعطوني دراسة واحدة كتلك التي قامت بها «ماكينزي» والتي وضعت من خلالها النقاط على الحروف وبصورة غير مسبوقة وقدمت من خلالها صورة حقيقية لواقع اقتصادياتنا ومواردنا العامة ومن دون رتوش والتي ضمنتها أرقاما صادمة وتنبؤات خطيرة لا مجال فيها للمجاملة أو مسك العصا من المنتصف لكي لا يزعل فلان أو يخاف علان.
نقلا عن عكاظ