فقهاء الشريعة والبنوك بين الممانعة والمشاركة

27/04/2016 2
د. عبد العزيز بن سعد الدغيثر

تنسم العلاقة بين المصارف منذ نشأتها وفقهاء الشريعة بشيء من التوتر، بسبب ظن الكثير من المصرفيين بأن فقهاء الشريعة لا يدركون الواقع، وأن الحلول الشرعية المطروحة ليست عملية بدرجة كافية.

ومنذ بدايات البنوك السعودية في سنة 1926م حيث بدأت نواة البنك السعودي الهولندي ثم في سنة 1948م حيث بدأت نواة البنك الفرنسي والبنك الأهلي وردت التساؤلات من العملاء إلى فقهاء الشريعة للإفادة عن موقف الشريعة من المعاملات البنكية المعاصرة، والمساهمة فيها بشراء أسهمها وتأسيسها وفق نمطها في ذلك الحين.

فقام فقهاء المملكة في ذلك الحين سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله – بواجبه في فهم هذه المعاملات، والتشاور مع غيره من الفقهاء ثم ساهم بالإفتاء والنصح وتعديل الأنظمة التي فيها ملحوظات والتي تتعلق بالبنوك، وظهر ذلك في عدة مواقف، فعلى سبيل المثال بدأ أحد البنوك بطرح أسهمه للاكتتاب فدرس سماحته واقع ذلك البنك ثم أصدر فتواه بالآتي:" البنوك متعرضة ولابد للربا ، فالذي أرى لكم من طريق المشورة والنصيحة عدم الدخول في ذلك (ف 1635 بتاريخ6/9/1376هـ 7/168). 

واستمر - رحمه الله – في نصيحة الناس بالبحث عن البديل الشرعي وترك المعاملات البنكية التي تشتمل على المحرمات، فقد كتب مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - نصيحة في التحذير من الربا، وقال في آخرها: ومن ذلك ما يقع في البنوك: مثل أن يقترض الرجل من البنك مائة على أن يدفع له مع المائة زيادة ستة ريالات أو أقل أو أكثر، ومثل أن يأخذ صاحب البنك من الرجل الدراهم ويعطيه ربحاً عن بقائها في ذمته خمسة ريالات أو أقل أو أكثر. وهذا من أظهر أنواع الربا ، وعين المحادة لله ورسوله.

فالواجب على ولاة الأمور والعلماء وأهل الحسبة وفقهم الله بيان غلظ تحريم ذلك ، وإنكاره ،وحسم مواده ، واجتثائها من أصولها وعقوبة كل من ثبت عنه شيء من ذلك ، وتغليظ العقوبة في حق من يتكرر منه ذلك، كما أن على المرابي أن يتوب إلى الله تعالى ، وله رأس ماله فقط ، لا يظلم ، ولا يظلم كما قال تعالى:(وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون). (فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم7/107-112.)

وبعد تشكيك بعض الناس بجريان الربا في عمل البنوك، أصدر فتوى موسعة ومعللة عن حكم الاقتراض من البنك بفائدة قال فيها - رحمه الله - : لا يخفى أن القرض عقد إرفاق وقربة، والزيادة فيه تخرجه عن موضوعه، سواء كان مما يتعامل به البنوك أن أو يتعامل به سائر الناس، قال في "المغني": وكل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف.

قال ابن المنذر: اجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك أن أخذ الزيادة على ذلك ربا، وروي عن أبي بن كعب وابن عباس وابن مسعود أنهم نهوا عن قرض جر منفعة، وعن فضالة بن عبيد موقوفاً: كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا، وروي عن علي بلفظ "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قرض جر منفعة" وفي رواية: "كل قرض جر منفعة فهو ربا" وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أقرض فلا يأخذ هدية" رواه البخاري في تاريخه، وعن أبي بردة بن أبي موسى، قال: قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام، فقال لي: إنك بأرض فيها الربا فاشي، فإذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه فإنه ربا. رواه البخاري في صحيحه.

فتبين بما ذكر أن أخذ الزيادة على أصل القرض حرام، ولا يحل. (ف 1703 15-4-1383هـ 7/206) ، وللأسف فإن هذا التشكيك مستمر إلى عصرنا هذا، وفي كل عصر يفند أهل الفقه شبهات المشككين.

وفي سنة 1384هـ  كتب أحد المشككين في حكم الربا المنتشر في البنوك في تلك الفترة، فوضح سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله – حكم الربا ، وسمى بحثه:" الروضة الندية في الرد على من أجاز المعاملات الربوية". وقد بين الشيخ أن كل قرض جر نفعا فهو ربا، وأثبت الأثر مرفوعا وموقوفا ومجمعا عليه. وطبع مستقلا ونشرتها دار الإفتاء سنة 1384هـ. وهي موجودة في فتاوى الشيخ (مجموع فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، جمع الشيخ محمد ابن قاسم رحمه الله، 7/118-160).

وفي خطاب له بخصوص ما يلاحظه على البنوك من المعاملات المحرمة ، وأكل أموال الناس بالباطل وعدم أداء الزكاة الشرعية لمستحقيها من الأصناف الثمانية الذين بينهم الله تعالى في كتابه بقوله:(إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم. ثم ذرك - رحمه الله - أن أخوف ما يخاف على البنوك والمتعاملين فيها الوقوع في الربا بأنواعه ، ولا يخفى ما ورد فيه من التغليظ والتوعد بالعقوبات الدنيوية والأخروية. ثم ذكر النصوص المحرمة للربا (7/112-114 ف1628 وتاريخها 2/6/1380هـ) 

ولما أنشئ البنك الزراعي كان مبنيا على القرض بفائدة رمزية، فسعى الشيخ محمد بن إبراهيم إلى إصلاح الوضع وذكر أنه أرشد ولاة الأمور إلى ما في برامج البنك الزراعي السعودي من الربا الصراح الذي هو محاربة لله ورسوله، فوافقوا وفقهم الله، ومنعوا الربا.  (ف1652 بتاريخ 5-2-1385هـ 7/179.) 

وقد كان يتابع ما يستجد على الساحة من معاملات، ويدل الناس على الخير والهدى ويحذر من الربا والردى، ومثالا على ذلك أنه لما صدر قرار مجلس إدارة شركة الأسمدة العربية السعودية (سافكو) المنشور في الصحف المحلية ، ومنها جريدة الرياض رقم 876 وتاريخ 28/12/1387هـ ووجد من ضمنه ما يتعلق بالاقتراض ، وأن الشركة اقترضت من البنوك ما يزيد على 22 مليون دولار.

إلى أن قال: وبمجرد استلام الشركة لهذه الأموال باشرت في استثمارها لدى البنوك المحلية والأجنبية ، ريثما يحين موعد دفعها للشركات المتعاقد معها، وحققت الشركة منذ بدايتها حتى تاريخ 31 ديسمبر1976 مبلغ 6838245ريالا. وقد كتب سماحة الشيخ - رحمه الله - خطابا إلى وزير البترول والثروة المعدنية قال فيه: ولا يخفى أن مثل هذه الشركة التي ساهم فيها أناس كثيرون من المواطنين ، الذين يرغبون الكسب الحلال ولا يقصدون الربا بوجه من الوجوه ،ومراباة الشركة بأموالهم تجعل كسبهم خبيثاً حراماً.

فلهذا يتعين على الشركة اجتناب هذه المعاملات الربوية الخبيثة وسنكتب على هذا كتابة مستوفاة فيما بعد، وإنما أردنا التنبيه على هذا بصورة مستعجلة استجابة لمراجعة الذين استنكروا هذا من المواطنين ،نستنكر هذا ، ونرجو من المسئولين ملاحظة ذلك بصورة مستمرة (مجموع فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، جمع الشيخ محمد ابن قاسم رحمه الله، ف 1634 بتاريخ 16/3/1388هـ 7/167) 

واستمر - رحمه الله – في معالجة الواقع بالإفتاء والإرشاد فأصدر عدة فتاوى بتحريم الفوائد التي تدفعها البنوك للمودعين والتي تأخذها من المقترضين، وأنها تجمع بين ربا الفضل وربا النسيئة، ولا فرق بين أن تسمى فائدة أو عمولة، وأن تلك الفائدة عين الربا المحرم باتفاق علماء المسلمين (ف 1629 بتاريخ 10/2/1384هـ 7/114، ف 1630بتاريخ 1/5/1384هـ 7/115-117، ف 1631 بتاريخ 28/2/1382هـ 7/117. ف 1637 بتاريخ 16/6/1387هـ 7/169). كما أنه دخل في تفاصيل المعاملات البنكية وأصدر فتواه بشأنها، فقد  سأله  الشيخ قاسم بن على آل ثاني - رحمه الله -  عن حكم ما يأخذه البنك على عميله عندما يحول له دراهم من بلد إلى بلد، هل يجوز مثل هذا ويعتبر كالأجرة أو يمنع لما فيه من الزيادة خشية الوقوع في الربا. 

فأجاب: الحمد لله. اختلف كلام العلماء في مثل هذا، فمنهم من قال: هو حرام ؛ لما فيه من الزيادة. ومنهم من قال: هو مكروه ومنهم من قال: بجوازه عند الحاجة؛ لأنه من جنس السفتجة؛ بشرط أن يكون ما يأخذه البنك بمقدار أجرته فأقل، ولم يكن هناك تحيل على الربا. والذي أراه في مثل هذا منع الزيادة مطلقاً؛ سداً للذريعة، وسد الذرائع أصل من أصول الشريعة (مجموع فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، جمع الشيخ محمد ابن قاسم رحمه الله، ف 1708 بتاريخ 27-6-1387هـ 7/211).

وكان - رحمه الله – يحرص على تنقية ما يكسبه الناس من أموال محرمة بأن يتصدقوا بها، ولا يدخلوها ضمن أموالهم، فقال - رحمه الله - :" الزيادة التي أخذت مقابل أرباح البنك تتصدق بها. (ف 1651 بتاريخ 17-6-1388هـ 7/178).

وكان رحمه الله يتمنى لو تصدى أحد طلاب العلم لدراسة أحكام الأوراق النقدية، فقال رحمه الله:" ينبغي أن يعلم أن أكثر معاملات أهل البنوك لا تخلو من أشياء مخالفة للشريعة من معاملات ربوية وغيرها ، فينبغي لطلبة العلم تحذيرهم من كل ما يخالف الشرع. (ف 1946 بتاريخ 24/2/1381هـ 8/113). وهذه لفتة من الشيخ لطلبة العلم بأن يشاركوا مشاركة إيجابية في الأخذ بأيدي البنوك من دائرة الحرام إلى الفضاء الواسع للمعاملات المباحة.

وفي تقرير له سنة 1381هـ قال: معاملة الناس صار فيها شيء كثير بواسطة الدولار وغيره، ينبغي أن يتصدى لها بعض طلبة العلم حتى يكتب فيها شيء تبرأ به الذمة (ف 1632 7/169) وقد استجاب الشيخ عبدالله ابن منيع جزاه الله خيراً لهذه الرغبة فكتب بحثه الشهير: الورق النقدي وصدر عن مطابع الرياض سنة 1391هـ - 1971م بتقديم الشيخ صالح الحصين - رحمه الله - . 

وقد سار على هذا النهج علماء السعودية بالإفتاء والتوضيح والإرشاد إلى البدائل الشرعية للمعاملات المصرفية،  وصدرت قرارات مجمعية من هيئة كبار العلماء في السعودية، ومجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، ومجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي لتساعد المصرفيين على معرفة المعاملات التي فيها إشكال شرعي وطريقة معالجته.

ويعد سماحة شيخنا الشيخ عبدالله العقيل - رحمه الله – رائد الفقهاء المشاركين لإصلاح المعاملات المصرفية في داخل البنوك، وسار  على دربه زملاؤه في التخصص الفقهي وطلابه من إنشاء أول هيئة شرعية داخل بنك سعودي إلى عصرنا هذا.

وفي الفترة الأخيرة اتجهت المصارف التقليدية إلى فتح نوافذ إسلامية، وبعضها أعلن عن التحول التدريجي إلى التعاملات المتوافقة مع الشريعة، وها نحن نرى النوافذ الإسلامية متوافرة في جميع المصارف بلا استثناء، لما رأوا أن الناس يمقتون من يعارض الشرع، ووجدت البنوك التقليدية من طلبة العلم الفقهاء كل التعاون لإيجاد البدائل المناسبة للمعاملات التي تتعارض مع الأحكام الشرعية، وهو ما يبشر بمرحلة مشرقة لمستقل البنوك في المملكة العربية السعودية.

خاص الفابيتا _ أرقام