نشرت صحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية أن بيانات لـ «بنك التسويات الدولية» أكدت انخفاض المبلغ الإجمالي لعقود المشتقات المالية من 700 تريليون دولار عام 2012 إلى 550 تريليون دولار في الوقت الراهن.
وللتعرف إلى خطورة هذا الرقم كان حجم المشتقات المالية يعادل ثلاث مرات مجموع الأصول في العالم عام 2012 ثم انخفض نحو الضعفين حالياً.
وتوضح البيانات أن العنصر الأكبر في هذه العقود هو عقـــود مقايضـــات سعر الفائدة، تليها مشتقات العملات الأجنبية.
أما عقود مـــايضـــة العجــز عن التسديد، وهي التي اعتبرت من العــوامل الرئيسة في نشوب الأزمة المالية العالمية عام 2008، فباتت الآن أقل حجماً ولكن بقيمة 15 تريليون دولار، بالتالي فهي أقل بقليل من حجم الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة الذي بلغ 18 تريليون دولار عام 2015.
ويستحوذ مصرفان هما «جي بي مورغان» و«دويتشه بنك «على نحو 20 في المئة من إجمالي الانكشافات على المشتقات المالية العالمية.
ولكل منهما انكشاف بنحو 50 تريليون دولار، بينما تبلغ القيمة السوقية لأسهم رأس مال «جي بي مورغان» نحو 200 بليون دولار و«دويتشه بنك» 230 بليوناً. وهذا يعني أن نسبة الاستدانة لدى كلا المصرفين تفوق ألفي مرة القيمة السوقية لرأس مالهما.
وصحيح إن احتمال تعرض المصرفين إلى خسائر بقيمة 50 تريليون دولار يبقى مستبعداً لأن الأخطار المرتبطة بذلك يجري التعويض عن بعضها البعض إلى حد كبير ويبقى الانكشاف الحقيقي مرتبطاً بصافي المراكز.
فمقابل كل وعد بالشراء هناك وعد بالبيع، ولكن ليس بالضرورة أن يكون الوعدان في الوقت نفسه أو السعر نفسه أو إلى الشخص نفسه. وبالتالي يصبح عدم التطابق هو مصدر الأرباح المحتملة.
وأخطر ما يبينه المقال أن هذا التفاوت في عقود البيع والشراء والوصول إلى صافي المراكز يخضع إلى برامج تقنية ونماذج محاكاة عالية المستوى ولكنها في نهاية المطاف برامج يضعها المسؤولون عن هذه المحافظ ما يعني أن احتمال تعرضها إلى الصواب أو الخطأ البشري يبقى دائماً موجوداً.
والقضية الرئيسة التي تبرز هنا هي مدى امتلاك المصارف أو الجهات الرقابية الوسائل الكافية للتعرف إلى الأخطار الحقيقية لهذه المشتقات، خصوصاً في الأوضاع الاقتصادية الصعبة كتلك التي نشأت عام 2008، فحجم الانكشافات لا يظهر في الموازنات العمومية للمصارف، كما لا يدخل ضمن حساب ملاءة رأس المال.
هذه المؤشرات تدفعنا إلى التأكيد مجدداً على خطورة مثل هذه الأدوات على النظام المصرفي العالمي، وعلى الاقتصاد العالمي ككل لأنه يضع مصيرهما رهن المضاربات وبرامج المحاكاة. وسبق لنا القول إن ابتعاد الصيرفة الإسلامية عن هذه المنتجات والأدوات بحكم عدم توافقها مع الشريعة الإسلامية يعتبر مصدر قوة للمصارف الإسلامية.
يقوم العمل المالي الإسلامي على منظومة من القيم والمثل والأخلاق مثل الأمانة والمصداقية والشفافية والبينة والتيسير والتعاون والتكامل والتضامن، فلا اقتصاد إسلامياً من دون أخلاق ومثل، وتُعتبر هذه المنظومة من الضمانات التي تحقق الأمن والأمان والاستقرار لكافة المتعاملين، وفي الوقت نفسه تحرّم الشريعة الإسلامية التعاملات المالية والاقتصادية التي تقوم على الكذب والمقامرة والتدليس والتغرير والجهالة والاحتكار والاستغلال والجشع والظلم وأكل أموال الناس بالباطل.
ومن المقومات الرئيسة أن النظام المالي والاقتصادي الإسلامي يقوم على قاعدة المشاركة في الربح والخسارة وعلى التداول الفعلي للأموال والموجودات، وتحكم ذلك ضوابط الحلال والأولويات الإسلامية وتحقيق المنافع المشروعة والغنم بالغرم، والتفاعل الحقيقي بين أصحاب الأموال وأصحاب الأعمال والخبرة والعمل وفق ضابط العدل والحق وبذل الجهد.
وحرَّمت الشريعة الإسلامية كل صور بيع الدين بالدين وصيغه وأشكاله مثل: حسم الأوراق التجارية وحسم الشيكات المؤجلة التسديد. وأكد الخبراء أن من أسباب الأزمة المالية العالمية الراهنة هو نظام المشتقات المالية لأنها لا تسبب تنمية اقتصادية حقيقية، بل هي وسيلة من وسائل خلق النقود التي تسبب التضخم وارتفاع الأسعار.
في الوقت الذي شهدنا فيه تنامي دور الصيرفة الإسلامية ومكانتها عالمياً بعد الأزمة العالمية وهو الأمر الذي دفع بمجموعة العشرين إلى الاعتراف بدور هذه الصيرفة في تمويل التنمية، كنا ولا نزال نأمل بأن يتعلم العالم من أخطائه السابقة، فيتجنب خصوصاً تعريض مصالح البشرية لأدوات مالية لا ننكر أنها تحقق للمصارف التقليدية بعض المنافع، خصوصاً إذا اقتصر استخدامها على الحماية والتحوط من الأخطار الفعلية التي قد تتعرض إليها، ولكن أن تتحول المتاجرة والمضاربة في هذه الأدوات إلى هدف بحد ذاته ومصدر رئيس لتحقيق الأرباح، فالنتيجة لن تختلف عما شهدناه في الأزمة العالمية عام 2008 إن لم يكن أسوأ.
نقلا عن الحياة