قبل حوالي عامين ونصف أجبرتنا اليايان على استخدام الكوادرليون لأول مرة –تقريبا- في تناول البيانات الاقتصادية بعد تضخم دينها متجاوزا ألف تريليون ين خلال عام 2013 (الكوادرليون يساوي واحدا صحيحا أمامه 15 صفرا أى ألف تريليون).
هذا الرقم أى كوادرليون ين يعادل أكثر من ثماني تريليونات دولار أى أكثر من ضعف حجم ثالث أكبر اقتصاد في العالم (230% تقريبا)، وهو معدل ضخم للديون بلاشك، ويعد مخيفا للوهلة الأولى.
لكن على عكس ذلك تبدو الحكومة متعايشة اذا جاز التعبير مع هذا الحمل الثقيل، ولا تعاني من صعوبة في بيع المزيد من الديون، بل على العكس هناك اقبال من قبل المستثمرين على شرائها.
ودليل ذلك أنه مع بداية مارس/آذار الحالي باعت وزارة المالية اليابانية سندات لأجل عشر سنوات بقيمة تناهز 20 مليار دولار بفائدة سالبة لأول مرة.
هذا يعني أن حكومة "شينزو آبي" باعت السندات وحصلت على أموال لتمويل أنشطتها المختلفة، وستجني ربحا مقابل ذلك وان كان هامشيا بدلا من دفع كوبونات أو عوائد.
فلماذا هذا الكم الهائل من الديون، ولماذا تقترض حتى قبل الفائدة السالبة بلا مشاكل أو عقبات، وهل يمكن الاستفادة من ذلك على المستوى السعودي؟
معظم المتابعين للشأن الاقتصادي يعلمون تماما مقولة "العقد الضائع" التي أطلقت على تسعينات القرن الماضي، حيث عانت اليابان من وضع اقتصادي حرج، وبدلا من تجاوزها أمريكا لتكون القوة الاقتصادية الأكبر عالميا كما توقع البعض في الثمانينيات دخلت في ركود.
وأثر ارتفاع الين السلبي في الثمانينيات على صادرات البلاد التي كانت لها خصوصيتها الفائقة عالميا، وفي ذات الوقت برز منافسون أقوياء من جيرانها لا سيما في كوريا الجنوبية وتايلاند وتايوان.
ثم كانت الاشكالية الكبرى التي ظلت آثارها حتى الآن مع خطط تحفيزية متتالية لمعالجة الآثار السلبية لـ"الفقاعة" التي انفجرت في وجه الجميع نتيجة النمو المحموم في القطاع العقاري مع توفير بنك اليابان ائتامنا رخيصا لمعاكسة التأثير السلبي لإرتفاع الين، لكن تلك الخطط لم تتجاوز العقبة الكأداء وظل الأداء باهتا خافتا.
وما يميز الدين الياباني هو ضعف امتلاك الأجانب له، حيث لا تتجاوز النسبة 9% مقارنة مع 48% لأمريكا تبعا لبيانات عام 2014، وهو ما يعني ان "شينزو آبي" وحكومته يقترضون من المستهلكين المحليين وقبلهم البنوك اليابانية.
بالطبع بنك اليابان له نصيب الأسد من هذه الديون "حوالي النصف أو أقل قليلا"، والباقي يتوزع بين مجموعة "بوست بانك"، و"بوست انشورنسن" للتأمين اى مجموعة البريد بشكل عام، وصناديق معاشات التقاعد على رأسها الصندوق الحكومي.
هذه "الصبغة المحلية" لتوزيع شرائح الدين العام جعلت من تكلفة اقتراض الحكومة بين الأقل عالميا بالتزامن مع ضعف أو تلاشي الضغوط التضخمية (0.0% في يناير/كانون الثاني).
ويعد ارتفاع معدل أعمار السكان والحاجة الملحة لخدمات صحية موازية ورعاية اجتماعية أحد أسباب نمو الانفاق الحكومي في هذا الجانب، فضلا عن تأثير ذلك السلبي على الطلب المحلي، فحاجة المسن أقل كثيرا من الفئات العمرية السابقة له في الترتيب.
لذا لم يكن مستغربا أن يتراجع عدد السكان بما يناهز المليون بين عامي 2010 و2015 ليكون اجماليه أعلى قليلا من 127 مليونا مع توقعات متواترة بتواصل وتيرة التراجع وصولا إلى 85 مليونا عام 2100.
هذا عكس ما هو موجود بالمملكة –السرد السابق لتوضيح أبعاد ما هو قائم في اليابان فقط-حيث تزايد أعمار فئة الشباب وهي صفة تكاد تشترك فيها جميع الدول العربية في الوقت الراهن، وهي دورة لا تأتي كل يوم بل كل قرنين تقريبا، ومن المفترض حسن استغلالها لدفع التنمية بخطى أسرع.
السؤال الآن: لماذا لا يظل الدين السعودي ذا صبغة محلية بعيدا عن المؤسسات والبنوك الدولية والإنعكاس السلبي لإمتلاكها كلما تذبذب النفط أو صدر تقرير لمؤسسة تصنيف ائتماني وأثره على الريال المربوط بالدولار وتكلفة الحفاظ على مستواه عند 3.75 من المضاربات التي لا تستند لأسس اقتصادية واقعية في معظم الأحيان؟ ناهيك عن تأثيرات سياسية أخرى.
والمبرر الحاضر الجاهز هو التأثير السلبي لذلك على السيولة، خصوصا بعد قرار "ساما" برفع نسبة الإقراض إلى الودائع 5% إلى 90%، وما ترتب عليه بشكل غير مباشر تحويل جزء من ودائع المصارف إلى سندات بفائدة أعلى.
هناك مثالب لا يمكن تجاهلها بالطبع ولكل توجه مميزاته وعيوبه حتى نكون منصفين مع أنفسنا، ولذلك أثر مباشر على رفع فائدة الاقراض بين البنوك على سبيل المثال.
وبغض النظر عن خفض "ستاندرد أند بورز" تصنيف المملكة، وتقريرها الأخير عن توقعات ارتفاع حجم الدين إلى 9% من الناتج المحلي الإجمالي في 2016 او ما يمكن ان يصدر من غيرها مستقبلا فإن هناك عجزا ولا بد من سداده بإصدار سندات أو اقتراض، والتنويع اختيار ذكي لكن مع تفعيل القاعدة اليابانية التي "حجّمت" مشاركة الأجانب في الدين الحكومي.
لا أقول ان حجم الدين السعودي –لا سمح الله- سيصل لنظيره الياباني، فقد يفهم البعض ذكر ما قيل للمقارنة، لكن الفكرة هي الإبتعاد عن الآثار السلبية بتوسيع قاعدة الاقتراض الخارجي في المرحلة الحالية المختلفة بأبعادها في كل شيء تقريبا.