مقدمة
يعتبر الاستثمار خارج حدود دولة الأم صعب ومعقد. فمع عدم توفر المعلومات الكافية عن الأسواق، وعدم توفر البنية التحتية لشبكات التسويق والتوزيع، فأن الجهود التي تبذلها الشركة لدخول أسواق أجنبية جديدة تتماثل مع تلك الجهود الخاصة بإقامة مشروع جديد في بلدها الأم. هذا يجعل الشركة في ختيار الاستراتيجية المُثلي التي تساعدها في النجاح. يناقش هذا المقال الاستراتيجيات المتاحة للشركات لدخول أسواق أجنبية جديدة.
استراتيجيات دخول الأسواق الأجنبية
نقصد باستراتيجية دخول الأسواق الأجنبية بالأساليب المختلفة التي من شأنها تمكن المستثمر الأجنبي من الوصول إلى الأسواق العالمية. فعندما تقرر الشركة بالتوسع دولياً، فأنها تواجه عدة خيارات. فقد تختار الشركة الإنتاج محلياً وخدمة الأسواق الأجنبية من خلال التصدير، أو تدويل (Internalization) أنشطتها دولياً وبالتالي الإنتاج مباشرة في تلك الأسواق. هذه الخيارات تختلف في درجة المخاطرة، ودرجة السيطرة على الإنتاج، والتكاليف المصاحبة للدخول. من أهم هذه الإستراتيجيات:
أولاً: التصدير المباشر
يعد التصدير من الاستراتيجيات التقليدية التي تسمح بالوصول إلى الأسواق العالمية. فيمكن للشركة الإنتاج محلياً في بلد الأم وتسويق السلع المنتجة في بلد آخر من خلال التصدير المباشر أو الغير مباشر. فالأولى تعني أن تتولي الشركة مسؤولية إدارة أنشطة التسويق والبيع عن طريق وحدات تنظيمية تابعة إدارياً للشركة الأم. أما التصدير غير المباشر فإن مسؤولية التسويق والبيع تقع على عاتق مؤسسات مستقلة إدارياً عن الشركة الأم (الوكلاء المحليين أو الدوليين). ومن أهم ما يميز استراتيجية التصدير في أنها تعتبر من أسهل السياسات التي تلجأ إليها الشركات مقارنة مع البدائل الأخرى. فمعدل المخاطر وتكاليف الإنتاج في بلد أجنبي تعتبر منخفضة، علاوة على كونها وسيلة جيدة للحصول على معلومات عن الأسواق العالمية المختلفة و من ثم كسب الخبرة التي تساعد الشركات على غزو أسواق عالمية جديدة.
ثانياً: الاتفاقات التعاقدية
تمثل هذه الاتفاقات ارتباطات طويلة الأجل بين شركات أجنبية وأخرى محلية في البلد المضيف، يتم بمقتضاها نقل بعض الأصول الغير ملموسة مثل التكنولوجيا وحق المعرفة من الطرف الأول (الشركة الأجنبية) إلى الطرف الثاني (الشركة المحلية) دون حصول استثمارات في أصول ملموسة من الطرف الأول. وتأخذ الأشكال التعاقدية صورا عديدة منها: عقود التجميع، وعقود الترخيص، وعقود الامتياز. وتعتبر هذه العقود خطوة أولية قد تتخذها الشركات الأجنبية التي تخطط للاستثمار في دول أجنبية والتي تساعده على تقليل المخاطر الناتجة عن نقص المعلومات الكافية التي تخلق حالة عدم اليقين عن تلك الأسواق.
1. عقود التجميع (Assembly Operations):
يتم من خلال عقود التجميع الاستثمار في البلد المضيف عن طريق شركة محلية ترتبط بعقد مع شركة أجنبية والذي بموجبة يتم تزويد الشركة المحلية بمكونات (المنتجات الأولية) منتج معين لتجميعها في البلد المضيف على شكل منتج نهائي. في هذا النوع من العقود يتم نقل التكنولوجيا والمعرفة والمساعدة الفنية للشركة المحلية بحيث تتولي عملية الإنتاج فقط، بينما تتولي الشركة الأم بعملية البيع والتسويق. وبموجب الاتفاقية التي تتم بين الطريفين تحصل الشركة الأم على رسوم مقابل استخدام الشركة المرخص لها أصول الشركة الأم الغير ملموسة. ومن ابرز الشركات التي تقوم باستخدام هذه الاستراتيجية هي الشركات العاملة في مجال تصنيع السلع المعمرة مثل السيارات والأدوات المنزلية الكهربائية.
ومن أهم مزايا عقود التجميع هو عدم حاجة الشركة الأم إلى استثمارات ضخمة لإنشاء الوحدات الإنتاجية، وتجنب التكاليف المرتبطة بالتشغيل، وتقليل المخاطر الناتجة عن الاستقرار السياسي. في المقابل يعاب على هذه الإستراتيجية أن الشركة الأم تواجه خطر خلق منافس قوى لها في المستقبل، يتمثل في الشركة المحلية المتعاقدة معها. و ايضاً في حالات كثيرة لا تستطيع الشركة الأجنبية العثور على شريك محلي تكون له القدرة على الإنتاج عند المستويات المطلوبة للجودة والكميات.
2. عقود الترخيص (Licensing) :
وهي من الطرق الأخرى التي تُمكن الشركات من تدويل أنشطتها دولياً دون الحاجة إلى الاستثمار المباشر في تلك الدول. والتي بموجبها تقوم الشركة الأجنبية بإعطاء الشركة المحلية الحق القانوني في استخدام الأصول الغير ملموسة للشركة الأم مثل اسم الشهرة أو العلامة التجارية أو براءة اختراع، والمعرفة التقنية مقابل حصول الشركة الأم على نسبة معينة من الأرباح. في هذه الحالة تقوم الشركة المحلية بعملية الإنتاج والتوزيع. من أشهر الشركات التي تستخدم هذا النوع من العقود هي تلك الشركات العاملة في مجال صناعة المواد الغذائية (شركة بيبسي وكوكا كولا على سبيل المثال).
3. عقود الامتياز (Franchising):
في هذا النوع من العقود تقوم الشركة الأجنبية الأم بمنح حق امتياز لشركة محلية في البلد المضيف يخولها حق مزاولة النشاط التجاري تحت الاسم التجاري للشركة الأم، وذلك نظير نسبة معينة والأرباح. وهذا النوع من العقود الامتياز يختلف عن عقود الترخيص في درجة السيطرة على أساليب الإنتاج. مثال على ذلك مطاعم الوجبات السريعة العالمية.
ثالثاً: الاستثمار المباشر:
يُعتبر الاستثمار الأجنبي المباشر أحد أهم الوسائل التي تستخدمها الشركات الأجنبية لدخول الأسواق العالمية. يمكن تقسيمه إلى:
1. الاستثمار التأسيسي ( (Greenfield FDI يعني إنشاء مرافق إنتاجيه جديدة أو التوسع في مشروعات قائمة للشركة الأجنبية الأم في البلد المضيف. فعندما تقوم شركة جنرال موتورز الأمريكية بإنشاء مصانع لها في البرازيل وكندا، فأن هذا يعتبر استثماراً تأسيسيا.
2. عمليات الاندماج والاستحواذ (Mergers and Acquisitions) يحدث الاندماج عندما تتحد شركتين أو أكثر بغرض تكوين كيان واحد، أما الاستحواذ فيتم عندما تقوم شركة بشراء كامل أصول شركة قائمة تعمل في بلد غير بلد الأم لتصبح إحدى الشركات التابعة للشركة الأم.
وتعتبر عملية الاندماج والاستحواذ من الظواهر الاقتصادية المرتبطة بالدول المتقدمة، ولكن مع نهاية عقد الثمانينات وقيام أغلب حكومات الدول النامية بتطبيق برامج الخصخصة، بدأت ظاهرة الاستحواذ على الشركات العامة والخاصة في تلك الدول بالنمو. وقد يتم اللجوء أيضاً إلى استراتيجية الاندماج والاستحواذ لإنقاذ الشركات المتعثرة والمفلسة أو تلك التي تواجة منافسة شديدة من الشركات الأخرى.
يمكن تلخيص الاسباب التي تدعو الشركات إلى اختيار الاندماج والاستحواذ بدلاً من الاستثمار التأسيسي في النقاط التالية:
· سرعة الوصول إلى أسواق جديدة. عندما يكون توقيت الدخول لسوق جديد أمراً مهماً، فأن الاستحواذ على شركة قائمة في سوق أجنبي يساعد الشركة الأم للتغلب على أغلب الصعوبات في تلك الأسواق. وذلك لامتلاك الشركة المُستحوذ عليها نظام قائم لمنافذ التوزيع والعملاء مما يجعل عملية الوصول إلى العملاء أسرع من الاستثمار التأسيسي.
· الحصول على أصول إستراتيجية. وتشمل البحث والتطوير أو المعرفة الفنية، وبراءات الاختراع والعلامات التجارية، أو شبكات التوزيع. وبما أن هذه الأصول تعتبر من الأدوات المهمة في العملية الإنتاجية والتي تأخذ وقتا لتطويرها.
· الاحتكار والسيطرة على الأسواق. حيث تستطيع الشركة القدرة على مواجهة الشركات المنافسة الكبيرة. فعلى سبيل المثال قررت شركتا نيسان وهوندا اليابانيتان على الاندماج وتشكيل قوة جديدة في صناعة السيارات العالمية، للتنافس مع التهديد المتزايد من الشركات الصينية.
من حيث الملكية، يمكن تقسيم الاستثمار الأجنبي المباشر إلى:
1. مشروعات مملوكة بالكامل (Wholly-Owned Enterprises). تكون الشركات التابعة أو المنتسبة أو الفروع مملوكة كلياً للمستثمر الأجنبي المباشر. هذا النوع من الاستثمارات يمنح المستثمر الأجنبي السيطرة الكاملة للشركة الأم، والحرية الكاملة في إدارة نشاطها الإنتاجي. هذا يساعد على خفض تكاليف الإنتاج. وقد يكون تأسيسياً أو من خلال الاندماج والاستحواذ. ويعتبر هذا النوع من الاستثمارات الأكثر شيوعاً وتفضيلاً لدى الشركات الأجنبية. في الجهة المقابلة العيوب لهذا النوع من الاستثمار هو ارتفاع تكاليف بدء المشروع الاستثماري، وعدم المعرفة التامة لطبيعة سوق البلد المضيف، مما يمثل أعلى درجات المخاطرة عند دخول الأسواق العالمية.
2. الاستثمار المشترك (Joint Ventures). هذا النوع من الاستثمارات تكون مشتركة بين المستثمر الأجنبي المباشر والمستثمر المحلي أو مستثمر أجنبي أخر، وهذا المشاركة لا تقتصر على رأس المال فقط بل تمتد أيضاً إلى الأصول الغير ملموسة مثل الخبرة والمعرفة. ويعتبر هذا النوع من أكثر أشكال الاستثمار الأجنبي المباشر التي اتجهت أغلب الدول النامية لجذبة من خلال تقديم الحوافز الحكومية المالية وغير المالية في عقد الثمانيات والتسعينات. ومن أهم عيوب هذا النوع هو صعوبة تحقيق التكامل بين المشروع ومجموع العمليات الإنتاجية الأخرى للشركة الأجنبية، وذلك لتعارض أهداف ومصالح واهتمامات كل من الشريك الوطني والشركة الأجنبية.
هنا يمكن إثارة السؤال التالي: ما هي العوامل التي تؤثر في قرار الشركة في ما يخص استراتيجية دخول لأسواق عالمية جديدة؟ للإجابة على هذا التساؤل قامت بعض الدراسات باستخدام نموذج "تكاليف العمليات" (Transactional Cost Model ) لتحديد استراتيجية الدخول المُثلى والتي بموجبها تُمكن الشركة من تقليل التكاليف المصاحبة لدخول سوق أجنبي. وبشكل عام يمكن القول بأن أنماط دخول المستثمر الأجنبي إلى الأسواق العالمية يتحدد وفقاً لعوامل تتعلق بحجم وطبيعة الشركة (Firm-Specific Factors)، وعوامل تتعلق بالبلد المضيف (Country-Specific Factors)، وعوامل تتعلق بالأسواق (Market-Specific Factors)
أولاً، العوامل المتعلقة بالشركة
فأول العوامل التي تؤثر على نمط دخول الشركة للأسواق العالمية هو حجم وطبيعة نشاط الشركة وإمكانياتها المادية. فالشركات الصغيرة قد تجد إن استراتيجية الاستثمار المباشر مكلفة جداً مما يدفعها للجوء إلى طرق أخرى تتميز بانخفاض تكاليف تدويل الأنشطة دولياً. فعلى سبيل المثال، تستخدم سلسة مطاعم ماكدونالدز استراتيجية عقود الامتياز لدخول أسواق جديدة. فمع نهاية عام 2024م حوالي 80% (من أصل 42,000) من المطاعم عبارة عن عقود امتياز تعمل في اكثر من 190 دولة حول العالم، والباقي ملك للشركة.
ثانياً، العوامل المرتبطة بالبلد المضيف
تلعب البيئة الثقافية والاجتماعية والقانونية والسياسية في البلد المضيف دوراً كبيراً في تحديد الاستراتيجية المثلي المتبعة من قبل الشركات التي تسعى للاستثمار خارج حدود دولة الأم. كما تعتمد أيضاً على بيئة الاستثمار في البلد المضيف، وطبيعة الأنظمة والتشريعات القانونية القائمة في هذه البلدان، فبعض القوانين الحكومية تمنع الاستثمارات المملوكة بالكامل للمستثمر الأجنبي مما يعنى استبعاد هذه الاستراتيجية من الخيارات المتاحة.
ثالثاً، العوامل المرتبطة بالأسواق
هناك عوامل ايضاً تتعلق بطبيعة وحجم سوق البلد المضيف مثل توقعات الطلب المستقبلية ومعدلات النمو فيه وعدد المنافسين المحلين أو الأجانب المحتملين. فكلما زاد الطلب وارتفعت درجة المنافسة دعت الحاجة إلى السيطرة الكاملة على وحدات الإنتاج.
مثال
استخدمت سلسلة متاجر وول مارت الأمريكية (Walmart) لتجارة التجزئة استراتيجيات مختلفة لدخول أسواق عالمية مختلفة. فقد دخلت الأسواق الكندية عن طريق الاستحواذ على شركة (Woolco) وهذه الخطوة منطقية لثلاثة أسباب: 1) تتميز السوق الكندية بالنضج وبالتالي فأن إضافة متجر تجزئة جديد سوف يعمل على زيادة درجة المنافسة المحلية مما يضر بمصلحة الشركة. 2) نظراً للتشابه الكبيرة بين الولايات المتحدة الأمريكية وكندا في ما يتعلق بالمستوى المعيشي والثقافي للأفراد، لم يكن هناك حاجة للبحث عن شريك استراتيجي للتغلب على مشكلة توافر المعلومات عن السوق. 3) وجود شركة تجزئة تتميز بالأداء الضعيف وبالكفاءة المنخفضة تعاني من تدني الأرباح تعتبر فرصة للاستحواذ عليها بتكلفة منخفضة. كما قامت بالدخول إلى الأسواق البريطانية عن طريق الاستحواذ على سلسلة متاجر (ASDA)، وفي ألمانيا بالاستحواذ على .(WertKaut) أما استراتيجية الدخول التي اتبعتها الشركة لدخول الأسواق المكسيكية فكانت مختلفة تماماً.
فبسبب التفاوت الكبير في مستوى دخول الأفراد بين الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك ظهرت الحاجة إلى توافر معلومات كافية تتعلق بأذواق الأفراد ونمط استهلاكهم مما دعي الشركة إلى التحالف الاقتصادي مع سلسلة متاجر (Cifra) التي تمتلك الخبرة العملية في السوق المكسيكي. ولنفس الأسباب قامت بالدخول إلى السوق البرازيلي عن طريق الاستثمار المشترك مع سلسلة متاجر (Lojas Americana). ومع تراكم الخبرة العملية والمعرفة بالأسواق في أمريكا اللاتينية، اختارت الشركة الدخول إلى الأسواق الأرجنتينية عن طريق إنشاء مشروع مملوك بالكامل للشركة الأم.
خاص_الفابيتا