قراءة في مسار التعريفات الجمركية

12/04/2025 0
د. محمد آل عباس

لا يمكن تجاهل عاصفة التعريفات الجمركية التي عصفت بالعالم بعد قرار رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، التي إذا لم تهدأ بشكل عاجل فستشوه هياكل الاقتصاد العالمي لأكثر من عقد في أحسن الأحوال، ولنبدأ من تشوه هياكل الاقتصاد، فالتعريفات الجمركية نوع من أنواع الضرائب الحكومية تحدث تغييرا هيكليا كمنع صناعة أو تعزيزها، وتوجيه سلوك أو منعه، وتصبح الصناعات المستهدفة بالتعريفات الجمركية أقل ربحية (أقل من العائد السائد)، فتغلق المصانع والشركات وتنتقل رؤوس الأموال إلى القطاعات الأخرى أو إلى الخارج، فيتغير هيكل الاقتصاد، وهذا يأخذ وقتا بلا شك، لكن الخطر يكمن إذا كان القرار الحكومي غير صحيح، فإن عودة الصناعات المغلقة أمر صعب ومكلف كاستصلاح الأرض البور، لهذا فإن الحرب التجارية (كحرب) التي لا معنى لها سوى إخضاع الآخرين تعني تدمير هياكل الاقتصاد العالمي بلا هدف ولن تعود الأمور إلى سابق عهدها، لذا آمل أن يغير ترمب قراراته بسرعة.

لماذا أرى أن على ترمب أن يتوقف، لأن هذا هو المسار الوحيد الذي يمكن المضي فيه دون تدمير هياكل الاقتصاد العالمي القائمة بالفعل، التي ظهرت بحكم التطور الطبيعي الذي تؤمن به الرأسمالية الغربية، فلا يمكن العودة إلى الوراء. لا يمكن العودة إلى عقود الخمسينيات والستينيات التي كانت فيها أمريكا سيدة العالم بلا منافس عندما كانت أوروبا واليابان تعانيان آثار الحرب، وهياكلهما الاقتصادية غير مكتملة، والصين غارقة في أزمات الشيوعية وتعليمات ماو، وإفريقيا في نوم عميق، والكوريتان وفيتنام في حرب ضروس. كانت المصانع في أمريكا فقط، ومن يريد العمل والثروة فعليه الهجرة إليها.

لكن ديمقراطية أمريكا المفرطة مع جماعات الضغط والمنظمات البيئية والأحزاب العمالية رفعت تكاليف خدمة المجتمع بشكل ضخم، مع رفع الحد الأدنى للأجور ورفع تكلفة المسؤولية الاجتماعية وقضايا الجودة والمعايير وغيرها، ما هدد الصناعة العالمية وهدد الشركات التي بحثت عن ملاذات، وقد وجدتها في الصن والهند وفيتنام، فتم نقل المصانع من أمريكا ودول أوروبا إلى هذه الدول التي تتمتع بضغوط أقل بشأن مستويات الرواتب والحماية الاجتماعية والبيئية ومعايير الجودة والتصنيفات، والأقل حماسة لقضايا المناخ.

دول كانت ترزح تحت أرقام البطالة الهائلة وضعف سعر الصرف واحتياجات معيشية بسيطة جدا، دول قدمت تسهيلات بلا حدود لشركات عابرة للقارات ومنحتها تأشيرات دخول وخروج مفتوحة ودفعت أثمانا اجتماعية وإنسانية ضخمة، كل ذلك في زمن كانت فيه أمريكا والغرب يناقشان الاحتباس الحراري بترف، ويتمتعان بالسلع الرخيصة التي أنتجها عمال في أوضاع صعبة، وللاستمرار تم فرض قضايا العولمة والانفتاح الاقتصادي وإزالة القيود لمجرد تسهيل نقل البضائع من المصانع في الصين والهند وفيتنام دون أن تستفيد الدول والحكومات من عوائد التصدير، ودون تعويضات تجاه قضاياها العادلة سواء العمالية أو البيئية.

كانت أسعار الصرف مريحة لدول أوروبا وأمريكا وهي تسيطر على المعرفة والابتكار، وتم التسويق لأفكار العولمة التي ضمنت بقاء الابتكار في دول الشمال والعوائد الضخمة هناك على شكل رواتب عالية وتأمين حياة ورعاية اجتماعية ودولة رفاهية مع مكافآت تنفيذيين وأسواق مال رائجة، ويبقى هم التصنيع وتكاليفه ومخاطره ورواتبه الضعيفة في دول الجنوب، لكن الحاسب الآلي وعالم الإنترنت غيرا البوصلة تماما، لقد تعلمت دول الجنوب قواعد اللعبة.

وعززت أسواقها المالية وجذبت رؤوس الأموال الضخمة وتعلمت الابتكار وأبدعت في الصناعة وقدمت المنتجات ذات الجودة وبأشكال مختلفة، وباعت المنتج بنفس جودته للعلامات التجارية المشهورة وباعته مرة أخرى لحسابها بطرق مختلفة، كل هذا وأمريكا وأوروبا منشغلتان بالابتكار التقني العالي جدا، متجاهلتين الجزء الأكبر من مجتمعاتهما الذي بقي دون مصانع وبلا عمل ووظائف هشة وتقاعد ضعيف جدا، مع تعاظم تكاليف المعيشة.

وبالطبع لم يعد هناك عمل في الدول الابتكارية في الشمال إلا لمن لديه قدرات تقنية ومعرفية عالية، بينما باقي المجتمع في حالة تشرد أو شبه تشرد، ولأن أغلب المصانع في دول الجنوب تبيع منتجاتها في دول الشمال فلا بد أن تحدث مشكلة اختلال ميزان المدفوعات التي يدندن عليها ترمب كثيرا، واختلال ميزان المدفوعات يعني خروج الأموال من الشمال نحو الجنوب للشراء، فتكسب دول الجنوب الأرباح من البيع والحكومات تصبح غنية وتتحسن أحوال دخل الناس، بينما تفلس حكومات الشمال وهي تضطر لبيع السندات التي تشتريها دول الجنوب وتأخذ فائدة أيضا، وهذا استنزاف بلا شك وحرب لم يعلنها أحد، لكنها قواعد الرأسمالية التي لا ترحم ورحاها التي تطحن من يقع بين فكيها.

ترمب يريد أن يتوقف كل هذا، وأن يكون أمام العالم خياران، إما إعادة المصانع لأمريكا (وهذا مستحيل)، أو أن يقبل بدفع الجزية في شكل رسوم، وهذا يعني رفع الأسعار في الولايات المتحدة على الأقل، لكنه يعوض الحكومة شيئا مما تفقده من ضرائب محلية ويعزز قدراتها على خدمة الدين. لماذا تستحيل إعادة المصانع، لأن هذا يتطلب من أمريكا إعادة التشريعات إلى ما قبل العولمة وهموم المناخ وقضايا العمال.

وحتى لو حصل هذا فإن تفكيك المصانع وإعادة تشغيلها في الولايات المتحدة سيأخذ وقتا، كما أن تشغيلها دون تعديلات تشريعية يعني أسعارا مرتفعة جدا، وبلا أرباح حقيقية للشركات فلن يفعلها أحد. في اعتقادي أن أمريكا والعالم سيرضيان بنصف حل، وهو تعويض الولايات المتحدة بشيء في مقابل بقاء الحال على ما هي عليه، لكن هذا إعلان موت العولمة.

 

 

نقلا عن الاقتصادية