يعد صندوق الثروة السيادية Sovereign Wealth Fund (SWF) أو الصناديق السيادية أداة من أدوات الدولة المعاصرة المملوكة لها. وتشير إلى الأموال التي تنتجها الحكومة وتُستمد – غالباً – من احتياطات الفائض، وإيرادات الموارد الطبيعية والسندات والأسهم والعقارات، والفوائض التجارية، واحتياطات البنوك المتراكمة عبر العقود، وأموال الخصخصة، وتحويلات العملات الأجنبية أو صادرات السلع كالنفط، والألماس، والنحاس، وهو مصطلح يتعلق بالاستثمارات الرأسمالية التي تقوم بها الدولة عبر الحدود لتحقيق عوائد عالية علي احتياطاتها. وبسبب الاستثمارات الضخمة لهذه الصناديق، وزيادة عددها بعد التسعينيات اكتسب المصطلح شعبية كبرى. فقد شهدت نمواً سريعاً في العقود الأخيرة من حيث العدد والأصول المستثمرة وباتت لاعباً مهماً في سوق رأس المال العالمي. فقبل عام 2000م كان هناك 20 صندوقاً سيادياً حول العالم فقط، وفي عام 2024 زادت إلى أكثر من122 صندوق ثروة سيادية تمثّل أكثر من 35 دولة حول العالم وفقاً لمعهد صناديق الثروة السيادية.
أهداف صناديق الثروة السيادية وأنواعها
وتتمتع الصناديق بأهداف متنوعة، من ذلك العدالة بين الأجيال، والاستقرار الاقتصادي الكلي، وتوفير الأموال لتحقيق عائد مستقبلي للحكومة والمجتمع، والحفاظ على العملة من تقلبات السوق المالية.
ويحقق انتشار صناديق الثروة السيادية غرضين. أولاً: يسمح لصانعي السياسات بوضع أهداف استثمارية محددة بشكل أفضل لكل كيان. وثانيًا: يخلق منافسة بين أدوات الاستثمار السيادية، ما قد يحفّز على تحقيق أداء أفضل، وبالتالي يمكن أن تحصل على ضخ أكبر لرأس المال في المستقبل.
ورغم تعدد مسمياتها إلا أن لها -غالباً- أنواعاً ثلاثة أساسية، هي:
1- صندوق الاستقرار (للتحوط من تقلبات سوق العملات والسلع).
2- صندوق الادخار (للأجيال القادمة).
3- صندوق التنمية (للمحافظة على المشاريع الاجتماعية والاقتصادية أو لدعم الصناعات).
أنواع مستثمري صناديق الثورة السيادية
ترى إحدى الدراسات أن هناك ثلاثة أنواع من مستثمري صناديق الثروة السيادية هم: (المستثمرون المحافظون – المستثمرون السلبيون – المستثمرون الاستراتيجيون)، ولكل نمط تركيزه وسلبياته. يوضحها الجدول التالي:
ضوابط إدارة الصناديق
وثمة قضايا عديدة تتصل بإدارة الصناديق منها ما يتعلق بمجلس الإدارة، وما يرتبط بحوكمتها وإنشاء نظام من الضوابط والتوازنات للمساعدة في ضمان عدم تقويض صناديق الثروة السيادية للإدارة الاقتصادية الكلية، ووضع معايير وضمانات مناسبة لنزاهة قرارات الاستثمار. بالإضافة إلى التفويض السليم، والإدارة الرشيقة، واختيار الموظفين المحترفين، كل ذلك وغيره يمكن أن يُحسنوا من جودة برامج الاستثمار العام. لهذه الأسباب وغيرها جاءت "مبادئ سانتياغو Santiago Principles "، والمعتمدة من المنتدى العالمي لصناديق الثروة السيادية كمبادئ توجيهية لتحسين إدارة الصناديق.
توجهات عشرة حديثة في سياسات صناديق الثروة السيادية
تعكس التوجهات الحديثة في إدارة صناديق الثروة السيادية مشهدًا ديناميكيًا ومتطورًا، مدفوعًا بالتغيرات الاقتصادية العالمية، والتقدم التكنولوجي، وإعادة التوجيه الاستراتيجي. وتشير هذه التوجهات إلى تحول نحو استراتيجيات استثمارية أكثر تعقيدًا واستدامة وتنويعًا، مما يجعل صناديق الثروة السيادية لاعباً مركزياً في الاقتصاد العالمي. وفيما يلي بعض التوجهات الرئيسية التي تمت ملاحظتها في السنوات الأخيرة، يوضحها الشكل التالي:
1- العناية بالمعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة
تدمج العديد من صناديق الثروة السيادية معايير ESG (Environmental, Social, and Governance) في استراتيجياتها الاستثمارية. هذا التحول مدفوع بزيادة الوعي بتغير المناخ، والمسؤولية الاجتماعية، واستدامة الاستثمارات على المدى الطويل. وتسعى الصناديق بشكل متزايد إلى مشاريع الطاقة الخضراء، والبنية التحتية المستدامة.
2- تبني التكنولوجيا والتحول الرقمي
تستفيد صناديق الثروة السيادية من التقنيات المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي، والبيانات الكبيرة، وتقنية البلوك تشين لتحسين استثماراتها. تساعد هذه التقنيات في تحسين تقييم المخاطر، وإدارة المحافظ، واتخاذ القرارات، مما يجعل الصناديق أكثر رشاقة ومعلوماتية في استراتيجياتها.
3- التنوع والاستثمارات البديلة
هناك اتجاه ملحوظ نحو تنويع محافظ الاستثمار خارج الأصول التقليدية مثل الأسهم والسندات. تستثمر صناديق الثروة السيادية بشكل متزايد في الأصول البديلة مثل: العقارات، والأسهم الخاصة، والبنية التحتية، ورأس المال المغامر. يقلل هذا التنويع من المخاطر، ويُحسن العوائد في بيئة ذات معدلات فائدة منخفضة.
4- الاستثمارات المحلية
توجه العديد من صناديق الثروة السيادية تركيزها نحو الأسواق المحلية، خاصة في الدول النامية. غالبًا ما يكون هذا الاتجاه مدفوعًا بسياسات حكومية تهدف إلى تعزيز الاقتصادات المحلية، وخلق فرص العمل، وتطوير البنية التحتية. على سبيل المثال، تستثمر الصناديق في الشرق الأوسط، وآسيا بشكل كبير في البنية التحتية وقطاعات التكنولوجيا في بلدانها.
5- الشراكات الاستراتيجية والاستثمارات المشتركة
تقوم صناديق الثروة السيادية بشكل متزايد بتكوين شراكات استراتيجية، والاستثمار المشترك مع مستثمرين مؤسسيين آخرين، مثل: صناديق المعاشات التقاعدية، وشركات الأسهم الخاصة. يوفر ذلك الوصول إلى صفقات أكبر، وخبرة مشتركة، وتقليل للمخاطر.
6- زيادة الشفافية والحوكمة
هناك تأكيد متزايد على تحسين معايير الشفافية والحوكمة بين صناديق الثروة السيادية. هذا التحول - جزئيًا – يعد استجابة للرقابة العامة والتنظيمية. وتساعد ممارسات الحوكمة المُحسنة في بناء الثقة مع أصحاب المصلحة، وضمان الإدارة المستدامة للثروة العامة.
7- التكيف مع التغيرات الاقتصادية والجيوسياسية
ينبغي أن تتكيف صناديق الثروة السيادية مع المشهد الاقتصادي والجيوسياسي المتغير بسرعة. يشمل ذلك التعامل مع التوترات التجارية، وتقلبات أسعار السلع، وحالات عدم اليقين الاقتصادي. وتعدل الصناديق استراتيجياتها للبقاء مرنة وحتى تستفيد من الفرص الناشئة.
8- الاستدامة والتوجه طويل الأمد
يبقى الأفق الاستثماري طويل الأمد خاصية أساسية لصناديق الثروة السيادية. تتزايد مواءمة استراتيجياتها مع النمو المستدام والمرن، مع التركيز على القطاعات التي من المتوقع أن تزدهر في المستقبل، مثل التكنولوجيا، والرعاية الصحية، والطاقة المتجددة.
9- استقطاب وتطوير المواهب
لإدارة المحافظ المعقدة والمتنوعة بشكل متزايد، تعزز صناديق الثروة السيادية استراتيجيات استقطاب المواهب الخاصة بها. تقوم بتوظيف محترفين ذوي خبرة في مختلف فئات الأصول والمناطق والصناعات الناشئة لضمان إدارة استثمارية قوية.
10- مراعاة تأثير المخاطر
أثرت جائحة كورونا على استراتيجيات صناديق الثروة السيادية، مما أدى إلى إعادة تقييم إدارة المخاطر واحتياجات السيولة. زادت بعض الصناديق من تخصيصاتها للأصول الأكثر سيولة لضمان المرونة، في حين استغلت أخرى اضطرابات السوق لتحقيق استثمارات انتهازية.
ختاماً، في عصر تقفز فيه الثروات من مجرد أرقام في دفاتر الحسابات إلى محركات للنمو والتغيير، تبرز صناديق الثروة السيادية كأدوات استثنائية تعيد رسم معالم الاقتصاد العالمي. فلم تعد هذه الصناديق مُجرد مُستودعات للأصول، بل باتت مُختبرات لصياغة المستقبل، حيث تتداخل الاستثمارات الذكية مع الرؤى الاستراتيجية لخلق اقتصاد أكثر استدامة، وأكثر قدرة على الصمود أمام التقلبات العاصفة.
ومع كل تحدٍ جديد يطرحه العالم، تبرهن هذه الصناديق أنها ليست مجرد محافظ مالية، بل منظومات ديناميكية تتكيف، تبتكر، وتتحول إلى قوى استثمارية ذات تأثير عميق. من استثماراتها في التكنولوجيا النظيفة إلى تبني الذكاء الاصطناعي في إدارة الأصول، ومن دعم البنية التحتية إلى قيادة مشاريع التحول الرقمي، تسير تلك الصناديق بخُطى واثقة نحو الغد، لا بوصفها مراقباً لمشهد الاقتصاد العالمي، بل بكونها أحد مهندسيه البارزين.
النجاح الحقيقي لهذه الصناديق لن يكون مجرد تحقيق عوائد مالية مرتفعة، بل في قدرتها على أن تكون جسورًا بين الأجيال، تنقل الازدهار والاستقرار من الحاضر إلى المستقبل، وتعيد تعريف الثروة بوصفها أداة لتمكين المجتمعات لا مجرد تراكم للأصول. وهنا يكمن التحدي الأكبر أمام صناع القرار والمسئولين: كيف يمكن لهذه الصناديق أن تظل قوى دافعة للتغيير الإيجابي، وركائز للابتكار، وشعلة تضيء دروب التنمية المستدامة؟ الإجابة ليست في الأرقام وحدها، بل في الرؤية والجرأة على إعادة صياغة قواعد اللعبة.
المقالة منشورة في النشرة الفصلية التي تصدرها جمعية الاقتصاد السعودية عدد رمضان 1446 هـ / مارس 2025 م