ليست مشكلة الإنفاق، في توفر سيولة النقد السعودي، وليس التضخم هو مشكلة الإنفاق طالما أن المشاريع تعتمد على استيراد العمالة والآلة والخبرة.
إنما المعضلة في خروج الريالات فاستنزاف دولار ريع النفط ودولار الاحتياطيات الأجنبية، وهذه كابوس المالية والمؤسسة والبلاد جميعا، فلا مال حينها لتنفق الدولة منه ولا غطاء للريال السعودي.
فمعضلة بلادنا النقدية هي اعتماد اقتصادنا الشديد على الاستيراد، فما يخرج سنوياً من الحساب الجاري يوازي تقريباً الميزانية.
وهذا يعني أن مشاريع التنمية التي تنفق عليها الدولة بالريال السعودي، أو حتى الاستثمارات الخاصة هي في الواقع دولارات تفقدها خزينة البلاد، سواء أكان من الاحتياطيات أو من دخل الدولة من البترول وتوابعه.
فإنفاق القطاع الخاص أو العام بالريال علي المشاريع أو على الإعانات أو على الرواتب هو إنفاق بالدولار لكنه في صورة الريال قبل خروجه من البلاد.
لذا لا فائدة من اقتراض الدولة محليا، فهذا تفكير الخبير الأجنبي الذي ورطنا بذلك، والذي لا تبذل شركته كلفة تضييع عقولها المبدعة لابتكار حل خاص بنا، إنما ترسل لنا من يحسن التعامل مع نفسياتنا، ثم لا يزيد على أن يتلقط من هنا وهناك ويعطيه لنا.
وأما تفكير الخبير السعودي فسينصب على كيفية استغلال السيولة المتوفرة عندنا تحت تصور واضح لاقتصادنا.
فالسيولة الهائلة التي نتمتع بها هي العصا السحرية التي ستجلب الأجنبي ليكفينا استنزاف دولار التنمية بل وحتى يدفع كلفة الإنفاق ويعوض إلى حين نقص البترول.
والحين هو ما بقت هذه السيولة متوفرة وفي أمان.
فبغطائها لا استخدامها ولا المخاطرة بها، نستطيع توليد مئات المليارات من الدولارات.
وسآخذ بنك التنمية الصناعي لأوضح به فكرة المقترح، كمثال على الإعانات المباشرة، لأقرب الصورة، ثم أوضح كيف يمكن إمكانية إدخال غالب المشاريع في نفس الفكرة.
فبنك التنمية مثلا يريد إقراض مشروع لمصنع خمسة وسبعين مليون ريال مثلا، فاليوم، فإن هذه الملايين هي دولارات النفط التي استبدلتها الدولة بالريالات عن طريق مؤسسة النقد.
وكذلك الخمسة وسبعين مليونا التي سيساهم بها المستثمر، أصلها من الدولارات وغالبا دولارات الحكومة.
ثم إن العمالة والمعدات والمواد الأولية وحتى رواتب السعوديين، التي بنت المشروع، ستُخرِج هذه المائة والخمسين من البلاد عن طريق استبدالها بالدولارات من مؤسسة النقد كذلك.
فبدلا من استنزاف أربعين مليون دولار من دخل البترول والاحتياطيات، فلم لا نستغل السيولة الموجودة عندنا؟
فيتفق مثلا مع بنك أجنبي على إقراض المشروع عشرين مليون دولار، بضمان المشروع وبضمان استيداع ربع القرض ويكون المشروع ضمان القرض، كما أن الصندوق سيقوم باستيداع خمسة ملايين دولار عند البنك.
فتقوم الوديعة مع أصول المشروع بدور الضامن للقرض بنسبة 25% من الكاش كما تقوم بحمل خمس السيولة التي سيقرضها البنك الأجنبي للمشروع السعودي، فهذا يرفع عائد البنك مما يسمح لنا بتخفيض الفائدة على المشروع.
فبإلامكان تحقيق عقد إقراض بسداد ثلاثين عاما بهامش يصل إلى 1% مع الفائدة الأمريكية المتغيرة لكل ثلاثة أشهر مثلا، لأننا ساهمنا بربع سيولة القرض، وأزلنا تقريبا كل مخاطر البنك الأجنبي من تعثر وتغير فائدة وخطر سعر الصرف لأن القرض سيكون بالدولار، ونحن لا مخاطرة علينا في سعر الصرف لأننا نعرف سياساتنا في ذلك.
وأخذ المتغير لا الثابت، يتم حسابه في ضوء أننا نملك سيولة تغنينا عن دفع كلفة سعر ثابت أو تحوط، بدون وجود مخاطر ظاهرة ومحسوبة وشبه متحققة.
فلا يأخذ فائدة ثابتة أو يتحوط من عنده سيولة، وإلا لما ربحت البنوك وهذا عملها، كما انه يجب اجتناب الايبور، لأنه عرضة للتذبذب تبعا لحال الاقتصاد الأمريكي والعالمي، بينما الفائدة الأمريكية أكثر ثباتا وأسهل تنبؤا.
فبهذا نكون قد حققنا أهدافا كثيرة منها:
1 - لم تمس احتياطات الدولة ودخلها من الدولار.
2 - ضوعفت طاقة الصندوق الصناعي أربع مرات.
3 - كأن الدولة حصلت على قرض أجنبي ولكنه ليس عليها، عكس حالنا في الثمانينيات.
4 - وبهذا أيضا فبدلا من إضاعة عشرين مليون دولار من الصندوق، عدنا فاستثمرناها في عوائد بنكية أعلى وحصلنا على خمسة أضعاف سيولتها، أو جعلناها مقابل تخفيض الفائدة على القرض.
وكذلك حصلنا بقرض يسدد على ثلاثين عاما لنعطي لاقتصادنا فرصة لينمو وللمشروع أن ينضج.
فإذا وسعنا النظرة لتشمل المستثمر المقترض من الصناعي، أو من أي مستثمر فاز بمشروع كبير.
فتطلب الحكومة من كل متعهد بمشروع كبير ألا يقترض من داخل البلد بل عليه بقيام مثل هذا العقد مع بنك أجنبي، وإذا وسعنا النظرة أكثر فحتى المشاريع التي لا تزيد على عشرة ملايين دولار مثلا، يمكن تهيئة صندوق لها يجمع بين عدة مشاريع فيها تشابه ائتماني ويقوم بعملية اقتراض أجنبي بهذه الطريقة.
عموما هناك تفاصيل طويلة وبدائل وكل مشروع وحالة له طريقته الخاصة، لكن سر قبول البنك الأجنبي هو ضمان خمس القرض بالكاش، بجانب المشروع.
وسر مقدرتنا على فعل الكثير من تخفيض الفوائد، وخلق تنافس البنوك الأجنبية علينا، هو السيولة المتوفرة عندنا مع بعض الهندسة المالية السعودية لا الأجنبية.
فمن القادر على وضع خمس قرضه وديعة عند البنك.
وهذا كله من غير أن تتحمل الدولة أي دين عليها، وأما ارتفاع الدين الخارجي العام، ( الغير حكومي منه) فسيلغي إثارة وجود الاحتياطيات عندنا التي ستكون قد حُفظت بسبب إجراءات كهذه. فالسيولة أداة عجيبة، تتضاعف نسبتها كبيرة أكثر بكثير من نسبة زيادتها.
ومن الفوائد الجانبية، أن البنوك العالمية ستساهم في تحكيم دراسات المشاريع أثناء دراستها لدراسات الجدوى للمشاريع المقدمة.
فلا يُستبعد أن تظهر البنوك الأجنبية معايب وفجوات كثير من دراسات المشاريع التي تؤخذ بها إعانات الدولة وتقام بها المشاريع.
فالبنك الأجنبي يريد كذلك التأكد من المشروع الممول لأنه ضمان له. ومن الفوائد كذلك أن هذا فيه كسر لكسل البنوك السعودية، وإهمالها لتطوير مهاراتها، وفيه دفع البنوك السعودية للتوجه للإقراض الداخلي في المشاريع الصغرى والمحلية مثلا.
وفيه تعلم بنوكنا الرضا بالربح العادل وتترك عادتها على الأرباح الخيالية.
نقلا عن الجزيرة