قبل أن يتطور علم الاقتصاد، إن كان الاقتصاد علماً، لأنه - في الواقع - مجرد نظرية..
أقول: قبل أن تظهر نظريات الاقتصاد، وتُنْشر، وقبل أن تعرف (صناديق التحوُّط) وتعمل.. نجد في تراثنا الأدبي، ومأثورنا الشعبي، ما سبق كثيراً من نظريات الاقتصاد ومدارسه.. وتفوَّق على (صناديق التحوُّط) برجاله المؤهلين ووسائله..
وقبل أن يشتهر المثل العالمي:
(لا تضع البيض في سلّة واحدة).
قال الفاروق، عمر بن الخطاب، رضي الله عنه وأرضاه:
(فرِّقوا بين المنايا).
وهو قول موجز، بليغ، من عبقري عظيم، يدعو أهل الحلال، من الإبل والأغنام، إلى عدم جمعها في مكان واحد، حتى لا تُعدي بعضها البعض إذا مرضت فربما تموت كلها! فمن التحفظ والحزم أن تُفرِّق في عدة مواضيع.. وبعيدة عن بعض.. فلا تنتشر العدوى إذا أصاب بعضها مرض.. مع وجوب عزل المريض..!
وأجدادنا القريبون متحفظون، حذرون، ولا تثريب عليهم ولا لوم، فما مرَّ بهم من فقرٍ وجوع، وما تتصف به بيئتهم من شح وقحط، وقلة مطر، وسوء في الجو، جعلهم يلزمون جانب الحذر الشديد، ويأخذون بأسباب الحيطة البالغة، وعدم الاعتراف إلا في ظل التأكيد التام، فهم يقولون في الأمثال:
(لا تقل بَرٍّ لين توكي الغرارة).
والغرارة هي (الخيشة) الكيس، فإذا رأي أحدهم زرعه قائماً على سوقه، قد امتلأت سنابه، وحان حصاده، وقال فرحاً: لديّ من (البُرّ) ألف صاع، قال له العقال: (لا تقل برّ لين توكي الغرارة) ذلك بأنه قد يأتي طوفان قبل حصاد بأيام فيجرفه كله، وحتى وقت حصاده قد تهب عاصفة هائلة تلجئ الحصادين إلى البيوت خوفاً من الموت (ما هو وقت حصاد.. ما روح ما بعدك روح..!) فتجعل العاصفة كل ذلك القمح هشيماً يذهب مع الريح.. بل وحتى بعد الحصاد، وقبل أن تُربَط على القمح الأكياس، ويُشَدُّ الوثاق (تمام التمام) فقد تهب عاصفة عاتية وتطير بحبات القمح المحصود كما تطير بذرات الرمال!
ومن مأثور أقوالنا في التجارة والتجار:
التجار الثلاثة:
* تاجر: وهو الذي يعمل بنصف رأس ماله، ويرفع نصفه الآخر للاحتياط، وأوقات الكساد!
* تويجر: وهو الذي يعمل برأس ماله كله.. والتصغير هنا للتهوين والتخويف!.. فما إن تهب رياح الكساد، وتقف الأسواق، حتى يصبح عمله مجرد (هشّ الذبان!) ويضطر للبيع بخسارة، لكي يكد على عياله، ويعطى صاحب (الدكان) إيجاره، والصبيان معاشهم، إن كان عنده صبيان!
* وسماد التجار: وهو الذي لا يكتفي بالعمل برأس ماله كله! بل يستدين من الناس! يغريه الطمع ويعميه الجشع فيستدين العشر اثنا عشر أو خمسة عشر أو عشرين!! حسب طمعه وسمعته التي هي غالباً في مهب الريح!.. فهذا في الغالب مصيره الإفلاس!
ثلث المكّده حطها في بعارين والثلث خرّج منه واضبط حسابه
والمقصود هنا (بالسماد) أكرمكم الله، أن هذا الصنف من أدعياء التجارة وهو الذي يغذي ثروات التجار الحقيقيين، لأن مصير بضاعته البيع في المزاد! وبأرخص الأثمان! فبضاعته مرهونة (للديانة) فما أن يعجز عن السداد، حتى يجتمع عليه الدائنون كالذباب! ويبيعون بضاعته برخص التراب!.. فهُم، همهم استيفاء ديونهم ورفيقهم من يدفع (كاش) ولن يدفع إلا التجار الراسخون المتحفظون، والمنتظرون لمثل هذه اللحطة، فيشترون بضاعة المسكين بنصف ثمنها، فيخسر نصف رأس ماله الأصلي، ويخسر النصف الباقي لأنه شراه بالديون، هذا غير الفوائد التي عليه، وغير الديون التي غالباً ما تبقى على ظهره حتى تكسر ظهره.. جبر الله كسره!
ومن أقوالهم التي تدل على رجاحة العقل، والمعرفة بتقلبات الدهر:
(أقسم حلالك ثلاث أقسام:
*قسم مع العقّال (في عقار مكانه قريب وايجاره مضمون لأنه مطلوب)..
* وقسم مع المهبّل! (في أراضٍ بعيدة رخيصة فربما وصلها العمران والخدمات فتضاعفت قيمتها عشرات المرات!) والمراد (بالمهبل) هنا هم من يضعون كامل مالهم في أراضٍ بور بعيدة وربما يستدينون أيضاً بدافع الطمع!.
* وثلث لا تشوفه الشمس! أي احتفظ به نقداً في حرزٍ حريز! فربما بار العقار الذي كان في مكانٍ ممتاز! فإن الأحياء السكنية والتجارية مثل الأحياء من البشر والشجر معرضة للموت!
ومن القصائد المشهورة، والمعبرة، والصادقة المعنى، والحلوة المبنى، قول عبدالله بن إبراهيم بن مقرن (مريعان) - تغمده الله برحمته:
ودّك إلى منّك بلغت الثلاثين
تبدأ تجمع خزنةٍ للعواده
ثلث المكدة حطّها في بعارين
والثلث خرِّج منه واضبط حسابه
والثلث الآخر حِطّ دونه كوالين
يجري على المخلوق شيٍ ما هقابه
خلّوك تقلط تآخذ الخمس بالفين
تقلط على العذروب وانت تهابه
مرقّعات شدوقها بالعرانين
توّه جديدٍ ما تقطّع رتابه
وراك ما جلستهم عند عدلين
ومطوعٍ مهوب ياخذ كتابه
سلفت لك ناسٍ ولا هم بسنعين
والزرق كلٍ ينهبونه نهابه
إلى بداء اللازم تراهم حبيبين
والى انقضى اللازم تراهم ذيابه
وورد - في مناسبه القصيدة - أن ابن الشاعر كان شهماً فأقرض ألفي ريال لبعض رفاقه، وهو مبلغ ضخم في وقته، ومن شهامته لم يأخذ عليهم صكاً بالقرض، فلم يعيدوه إلاَّ بالعذاب! ولم يعيدوا من الألفين إلا خمسمائه ريال!
وأكثرنا مررنا بمثل هذه التجربة ونحن شباب!! فكم من قرضٍ ذهب في خبر كان!! ولكن ما ضاع من مالك ما وعظك.. ولكن خير مالك ما نفعك.. وعند الحاجة لن ينفعك - بعد الله عز وجل - إلاّ مالك الحاضر!
والشاعر (المريعان) -رحمه الله- أحسن وأجاد! وذكر مرحلة الشيخوخة (العَوَاده) حيث العجز عن الكسب، والحاجة للرعاية والعلاج، فالمال المُدَخَّر يحفظ كرامة (العود) ولا يجعله يحتاج لأحد، فحتى لو احتاج الأب المسن لمال ولو من ابنه فإن ذلك يصعب عليه ولو كان طول عمره يعطي، فالمثل يقول: (إذا أعطى الأب ابنه ضحك الاثنان وإذا أعطى الابن أباه بكى الاثنان) وفعلاً، في الحالة الأولى يضحك الاثنان ابتهاجاً وسعادة، فالأب سعيد بإعطاء ابنه، والابن سعيد بجود أبيه لا يجد في نفسه غضاضة، ولكن الأب المسن، وغير المسن، يحس - هو وابنه - ببعض الانكار إذا طلب من ابنه بعض المال! فربما بكى الاثنان من التأثر.
عموماً نرجو تأمل ما في قصيدة الشاعر من حكمة وبلاغه وحسن وصف ومعرفة بطباع الناس وحال الحياة..
ومن شواهد النحو المشهورة
(كُلُّ النداءِ إذا ناديت يَخْذلُني
إلاَّ نِدائي إذا ناديت: يا مالي)!
وأحرى به أن يكون من شواهد الاقتصاد والادخار والاحتياط!
ويقول الشاعر:
إذا المرء لم يحتل وقد جد جده
أضاع وقاسى أمره وهو مدبر
ولكن أخو الحزم الذي ليس نازلاً
به الأمر إلا وهو للأمر مبصر
فذاك قريع الدهر ما عاش حول
إذا سد منه منخر جاش منخر!!
قلت: وما أشد ذكاء الجربوع! هذا الحيوان الصحراوي الصغير! فإنه يجعل لجحره أكثر من باب (نَطْقَه) باب ظاهر يدخل معه! وباب سريّ لا يبين يهرب معه إذا هاجمه أحد! وبعض (الجرابيع) تزيد من الاحتياط فتضع عدة أبواب سرِّية!!
نقلا عن الرياض
ثلث المكدة حطّها في بعارين والثلث خرِّج منه واضبط حسابه والثلث الآخر حِطّ دونه كوالين يجري على المخلوق شيٍ ما هقابه المختصر المفيد
ما أجمل وأروع كتاباتك
اول مرة اقرأ هذا المقال واعجبني جدا جدا
الشيء الوحيد الذي لن يخذلك هو مالك. حين تطلبه يقول لك شبيك لبيك عبدك بين ايديك لن يتردد او يتلكىء او يمنن. بالمال يصبح الوضيع الاصل شيخاً والعيي فصيحاً والتافه وجيهاً و النكرة صاحب نفوذ و سطوة. اذا اصابك الارق توسد خيشة دراهم.
المال مال الله ، وانت مؤتمن على ادارتة وسوف تسأل عنه ، الامثله اعلاه عبارة احد اساليب ادارة المال او الثروة
من ادبيات القتصاد والادارة تثير الاعجاب
نصائح اقتصادية بصورة أدبية رائعة وممتعة .. وأعتبر ذلك من أجمل كتابات الأستاذ عبدالله ، سلمت أناملك وشكراً جزيلاً ،،
تراثنا مليان بالحِكم في السلوك الرشيد، قول الفاروق (فرقوا بين المنايا) سبق المثل المشهور ( لا تضع البيض في سلة واحدة) و (الطمع يذهب ماانجمع) و (اذا جاك باب طمع سده بباب يأس).. استاذ عبدالله أنا من أشد المعجبين بكتاباتك الممتعة ..
(المهبل) في سوق الاسهم مرة نسب فوق ومره تحت ولكن في الأخير يتعبون .. لا يصح إلّآ الصحيح .. شكرا استاذنا على التوعية
الله يرحم أجدادنا ماعندهم تقاعد ولا ضمان اجتماعي
الكاش ملك
( ودك الى منك بلغت الثلاثين @ تبدأ تجمع خزنة للعواده ) يعني توفر لحالك اذا صرت عود ما تقدر تكسب ! والله صحيح لكن ثقافة الادخار عندنا معدومة
( تاجر وتويجر وسماد التجار )!!!! من القسم الاخير الذي ياخذ تسهيلات كبيرة على الاسهم وتبيع له البنوك اذا دحدر السوق ويشتريها التاجر بارخص الاسعار !!!!
جميل جدا المقال لاكن الخط متعب لو كان خط نسخ اوضح يقول الشاعر العربي القديم مما حفظت في صغري من احد الكتب استغن ولا يغرنك ذو شنب من ابن عم ولا عم ولا خال ولا تحقرن شي تجمعه ولا تفنينه يوما على حال كل النداء اذا ناديت يخذلني الا ندائي اذا ناديت يامالي ........ تحياتي للجميع
سماد التجار وصف بليغ
التجاره في حاجه الى عقل وفهم وشطاره وجراءه
من المهم ان نفكر في المستقبل انتبه من الحاجه للأخرين دع بين عينيك مقولة ارحموا عزيزقوم ذل
مقالة رائعة من كاتب رائع ... دائما ماتتحفنا اخي عبدالله بجميل كتابك وبصمة أناملك لك صدق الحديث وقبول القلب .... اشارة من الكاتب وتنبيه من قادم الأيام ان استمر النفط على ماهو عليه ان تتغير حساباتنا كثيرا عما هي عليه الآن فزمن المال السهل قد لايتكرر والعلم عندالله .
تعجبني مقالاتك واسلوبك السهل الممتنع ، واقعيتك المعروضة بأسلوب ادبي قشيب أحببته مُذ كنت طالب في الثنوي حتى تخرجت وتوظفت فلك شكر من تلميذ جعلته يحب القراءة ويفكر ان يكتب بل ان من واجبي ان أشكرك ، وموضوع اليوم نافع وطريف وفيه صور من بيئتا ومن واقع المجتمع
تعجبني مقالاتك الاقتصادية
مالك هو الذي اذا ناديته في اي وقت وتحت اي ظرف وفي اي مكان يقول لك لبيك سيدي
الكاش هو مصباح علا الدين : شبيك لبيك
ياكثر سماد التجار ! واولهم أهل الفشخرة والهياط
المشكله ماربح في هالسوق الا المهبل !!! المقال ممتع ومفيد شكرا استاذ عبدالله
مقال جميل وهذاي جزء من الاستراتيجية وقبل كل شي التوكل على الله وفعل الأسباب دون عناد والوصل مع الله .. مقال رائع
مقال جميل يسطر بماء الذهب
ياليت كل فلوسي في البنك ولا شافتها الاسهم ولا الشمس
ياريت ياريت ياريت ! وكلمة ياريت عمرا ما تعمر بيت !!!!!!
لا امل من قراءة هذا المقال العجيب المفيد