منذ بدأت أسعار النفط بالتراجع في حزيران (يونيو) 2014، لم تنقطع الحوارات بين بلدان الخليج حول سبل مواجهة تراجع الأسعار.
وبغضّ النظر عن بعض الجدل العقيم، تشمل هذه الحوارات عموماً قضايا مهمة وملاحظات أساسية ومقترحات مفيدة في شأن المستقبل الاقتصادي لبلدان المنطقة.
معلوم أن بلدان الخليج لم تغتنم تماماً فرصاً سنحت منذ بداية تصدير النفط من موانئها قبل 70 سنة، لاعتماد سياسات إصلاح اقتصادي.
والآن بعدما تكرّس الاقتصاد الريعي وأصبح أصعب التحرر من الاعتماد على إيرادات النفط أو تنويع القاعدة الاقتصادية، يمكن الزعم أن مواجهة الأزمة باتت أكثر تعقيداً.
يمكن الحكومات أن تقرر اعتماد سياسات مالية جديدة تؤدي إلى تقليص الإنفاق الجاري ووقف الهدر وترشيد الدعم، أو تبنّي قوانين للضرائب على الدخول العائلية وأرباح الشركات والمؤسسات الاقتصادية، لكن السياسات المالية التي أسست لأنظمة اقتصادية قائمة على فلسفة الريع في هذه البلدان، أوجدت وقائع ليس من السهل تجاوزها.
ففي مختلف بلدان الخليج، أصبح دور الدولة أساسياً ومهماً في العملية الاقتصادية، واعتمدت حكومات بلدان المنطقة سياسات مالية توسعية بمعدلات نمو عالية، خصوصاً في السنوات العشر الأخيرة التي شهدت ارتفاعاً في أسعار النفط.
وتمثّل الإيرادات النفطية نحو 75 في المئة من حصيلة الصادرات، ونحو 63 في المئة من الإيرادات السيادية لحكومات هذه البلدان، علماً أن هناك تفاوتاً بين بلد وآخر، كذلك تمثل مساهمة قطاع النفط والغاز 41 في المئة من قيمة الناتج المحلي الإجمالي كمعدل وسطي لبلدان المنطقة.
واعتمدت هذه البلدان منذ عقود، اعتماداً هيكلياً على العمال الوافدين، ما رفع عدد السكان في الخليج إلى حوالى 47 مليون شخص، 52 في المئة منهم مواطنون و48 في المئة وافدون.
وتنخفض نسبة المواطنين في الإمارات إلى 12.5 في المئة، وفي البحرين إلى 46 في المئة، وإلى 31 في المئة في الكويت، و15 في المئة في قطر.
وليست هناك غالبية للمواطنين سوى في عُمان (60 في المئة) والسعودية (68 في المئة).
وتصل نسبة العمال الوافدين في سوق العمل في بلدان الخليج ككل إلى 70 في المئة.
كيف يمكن الحد من التوظيف في القطاع العام من دون تطوير دور القطاع الخاص وتعزيز قدراته على خلق وظائف جديدة لاستيعاب المتدفّقين إلى سوق العمل؟
ليست هناك إمكانات لإسناد مهام اقتصادية أساسية للقطاع الخاص من دون تبنّي فلسفة تخصيص شاملة تهدف إلى إعادة هيكلة اقتصادات بلدان المنطقة، وتدفع القطاع الخاص إلى قيادتها.
وتتباين الأوضاع بين دولة وأخرى في مجال الإصلاح الاقتصادي، فهناك بلدان قطعت شوطاً جيداً ومكّنت القطاع الخاص من تولّي مسؤوليات أساسية مثل عُمان والبحرين والإمارات، وإلى درجة ما السعودية وقطر، فيما تظلّ الكويت بطيئة في إصلاحاتها.
والمهم في تبنّي سياسات جريئة ألا تفقد الدولة دورها في الحياة الاقتصادية، وربما يمكن تبنّي عمليات الشراكة بين القطاعين العام والخاص في العديد من النشاطات، مثل المرافق والبنية التحتية والخدمات الارتكازية، وفي القطاع النفطي، خصوصاً «نشاطات المصب»، أي التكرير والنقل والصناعات البتروكيماوية.
يضاف إلى ذلك، أن الإصلاح الاقتصادي يعتمد على الانفتاح وتطوير بيئة الأعمال من أجل جذب المستثمرين الأجانب وتسهيل عمليات الشراكة بين الشركات المحلية والشركات العالمية المتخصصة بالأعمال.
وهنا لا بد من تحديد القطاعات الاقتصادية الواعدة التي تستفيد من هذه الشراكات، بما يؤهلها في المستقبل إلى رفع مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي لأي من بلدان المنطقة.
وقد يتطلّب التحول الهيكلي معالجات لأوضاع عديدة في بلدان المنطقة، لكن تلك المعالجات تعدّ ضرورية في سياق التطوير والإصلاح.
ومن أهم المعالجات، ما يتعلّق بالتعليم والمعرفة، فلا يمكن أن تكون هناك بيئة أعمال في غياب اليد العاملة الوطنية المؤهلة والمدربة والقادرة على تولّي المهام في مختلف القطاعات، وإنجاز الأعمال الوظيفية كلّها أو معظمها.
ويفترض تحدّي التعليم أن يدفع دول الخليج إلى مراجعة البرامج والمناهج التعليمية وأساليب التعليم والهيئات التدريسية المنوط بها تولّي تربية الأجيال الجديدة.
هذه مهام صعبة لكن أساسية للإصلاح ومواجهة المتغيرات في بيئة الاقتصادات الوطنية.
وهناك أهمية لتوافق خليجي شامل حول هذه المسألة، وتبنّي فلسفة تعليم جديدة تهدف إلى إنتاج يد عاملة وطنية تتوافق مع متطلبات الإصلاح الاقتصادي.
هذه التحولات قد تتطلب سنوات عديدة لتحقيقها، لكن هناك ضرورة وأهمية لتبنّي السياسات المواتية التي تقود إلى بلوغها.
أما في الأجل القصير، فمواجهة العجز في الموازنات الحكومية لا بد من أن تُجرى من خلال ترشيد الإنفاق غير الأساسي وتطوير آليات جني إيرادات غير نفطية، ومن ذلك اعتماد أنظمة ضريبية مناسبة مثل ضريبة المبيعات على السلع والخدمات، وضريبة الأرباح الرأسمالية التي تفرض على الأرباح المتحقّقة من بيع الأصول المالية والعقارية وغيرها.
وربما يجب فرض ضرائب على المداخيل التي تحققها الشركات من أعمالها وفي شكل متدرّج لا يعيق تحسين بيئة الأعمال.
ستستمر الحوارات إلى حين، لكن يجب أن تساهم في تبنّي معالجات مناسبة.
نقلا عن الحياة