تعقد هذه الأيام في تركيا قمة مجموعة العشرين، التي تعد دورية؛ إذ تعقد في مثل هذه الأوقات من كل عام، إلا أنها استثنائية من حيث القرارات التي ستتمخض عنها؛ فالأوضاع السياسية والاقتصادية العالمية مضطربة، والخلافات عميقة بين غالبية دول المجموعة حول العديد من الملفات الحساسة، ولا يمكن أن تتجاوزها الأجندة الموضوعة على جدول أعمال القمة منذ فترة، التي تركز على سبل دعم النمو الاقتصادي العالمي الضعيف حالياً، إذا لم يكن هناك مكاشفة ووصول لاتفاقيات
حول حل لأغلب الملفات الرئيسية التي من شأنها إما أن تزيد من الضغط على الاقتصاد العالمي، أو تؤدي في حال انفراج هذه القضايا الكبرى إلى دعم المبادرات المطروحة لإضافة 2 % لنمو الاقتصاد العالمي، الذي هو بأمسّ الحاجة للاستقرار أولاً، ثم الاتجاه نحو نمو متوازن، يُنهي كل الآثار التي خلفتها الأزمة المالية العالمية منذ سبعة أعوام.
فالمشهد العام للمواقف بين الدول المجتمعة يبدو معقداً؛ فالشق السياسي يحمل الكثير من الخلافات؛ فروسيا تتعرض لعقوبات من أمريكا وأوروبا بسبب موقفها في أوكرانيا، وزاد الأمر تعقيداً تدخلها بسوريا عسكرياً.
وبالوقت نفسه، أغلب أعضاء المجموعة لديهم وجهات نظر ومواقف معاكسة للموقف الروسي في أغلب الملفات، وخصوصاً السوري، حتى تركيا المستضيفة للقمة متضررة من الأوضاع على حدودها الجنوبية، ولم تحصل على تعاون كافٍ من الغرب لحل الملف السوري، وتبدو بموقف حساس من تدخُّل روسيا فيه؛ فمجمل الوضع السياسي الدولي ليس بحالة قريبة من الإيجابية بين الأطراف المجتمعة.
وحتى المتفقون على وجهات نظر حيال تلك الملفات يوجد خلاف بينهم على طرق الحل. وتأتي اعتداءات باريس قبل يومين لتزيد من حدة المواجهة السياسية داخل اجتماعات القمة لأهمية أن الجهود من المجموعة يجب أن تتوحد لمكافحة الإرهاب، وحاضنته في سوريا والعراق بسبب الفوضى الكبيرة فيهما.
فالتحليل للمشهد السياسي يعطينا التصور للصعوبات التي تواجهها الحلول الاقتصادية المطروحة في القمة، التي بالأصل هي ذات طابع اقتصادي منذ تأسيسها عام 1999م، إلا أنه لا يمكن فصل السياسة عن الاقتصاد، أو التقدم بأي عمل من شأنه معالجة الضعف الاقتصادي الدولي دون أن تكون الرؤى متوافقة بكل الملفات المؤثرة سلبياً على العالم بمختلف المجالات.
لكن حتى المشهد الاقتصادي يحمل كذلك الكثير من الخلافات وعدم الثقة بالسياسات المتبعة في الدول الكبرى، التي أضرت بدول من أعضاء المجموعة، وأولها الطريقة التي تستخدمها أمريكا بسياستها النقدية بإيقاف التيسير الكمي بسرعة أربكت الاقتصادات الناشئة لبعض الدول الأعضاء؛ إذ بات واضحاً أن اتجاه الفيدرالي الأمريكي لرفع أسعار الفائدة لأول مرة منذ 9 أعوام سيعني مزيداً من هروب الأموال من تلك الدول إلى الدولار.
ومنذ قرابة عام على التحول الجذري بسياسات أمريكا النقدية فقدت عملات دول عديدة أعضاء بالمجموعة، كروسيا وتركيا وجنوب إفريقيا والهند والبرازيل، نسبة كبيرة من قيمتها، بلغت بالمتوسط نحو 30 %، مع استمرار بتذبذب حركة عملاتها؛ ما أضر بنموها الاقتصادي، وأضعف اتجاه الاستثمارات لها، بما يتطلب أن تتفق الدول على مراعاة استقرار عملاتها، وعدم اتباع سياسة نقدية ضارة؛ إذ لا يمكن أن يتحقق هدف المجموعة بإضافة نمو للاقتصاد العالمي والعديد من الدول عملاتها غير مستقرة بسبب تصرف من عضو لم يراعِ الوضع عالمياً ويساعد على الاستقرار لدول مهمة تشاركه الهدف المعلن لدعم النمو الدولي.
فكيف نكون شركاء بالحل وعند التنفيذ تظهر المصالح الضيقة؛ لتضرب كل ما يتم التوافق عليه بشأن الشراكة والتعاون الاقتصادي والتجاري بين الأعضاء؟
ولا يمكن أيضاً فصل تباين وجهات النظر بين منتجي النفط الأعضاء بالمجموعة؛ ففي الوقت الذي ما زالت فيه أوبك بقيادة المملكة العربية السعودية (عضو المجموعة) متمسكة بموقفها من الحفاظ على حصتها السوقية، بدلاً من دعم الأسعار، فإن دول كبرى منتجة، على رأسها روسيا من خارج أوبك، لا تبدي أي خطوات عملية يمكن أن يستنتج منها إمكانية التعاون مع أوبك لتحسين الأسعار. فإن الطلب من دول أوبك خفض إنتاجها لرفع الأسعار دون التزام المنتجين خارج المنظمة لن يصل إلا لطريق مسدود كما هو واضح حالياً.
فأوبك تبحث عن تحقيق مصلحة مشتركة لجميع المنتجين، تخدم استقرار صناعة النفط، ووصول الأسعار من عوامل السوق الطبيعية لمستويات أعلى مناسبة للمنتجين والمستهلكين لفترات زمنية طويلة، بينما من هم خارج أوبك يبحثون عن مصالح ضيقة لفترة زمنية قصيرة بعمر الاستثمار بصناعة النفط. أما منتجو النفط الصخري فهم شركات نظرتها مختلفة، تتركز بتحقيق أرباح، بينما كبار المنتجين للنفط التقليدي من الدول تعتمد على إيرادات النفط بنسب عالية لخزينتها، وتأثيره بنموها الاقتصادي من خلال الإنفاق الحكومي الذي يعتمد على حجم الإيرادات؛ فالتقلبات الحادة بالأسعار تشكل عامل ضغط على توجهات التنمية فيها.
وباستثناء دول الخليج التي تمتلك أوضاعاً مريحة مالياً، تساعدها لتجاوز الأوضاع الحالية السلبية بأسعار النفط، فإن باقي المنتجين من أوبك وخارجها أصبحوا بوضع اقتصادي صعب، يهدد قدرتهم على تحقيق حتى نمو ضعيف باقتصادياتهم.
يضاف لكل تلك التعقيدات الاقتصادية العالمية الاتجاهات التي باتت عنواناً عريضاً عالمياً، وهي التكتلات الاقتصادية، كاتفاقية عبر المحيط الهادئ، وقبلها منطقة اليورو ودول بريكس، ولاحقاً ما تطمح له الصين والهند بإنشاء منطقة تجارة حرة لدول آسيا الشرقية والجنوبية.
فمثل هذه التكتلات وإن كانت تُظهر مزيداً من التعاون التجاري إلا أنها لا بد أن تختلف بنقاط أساسية مع توجهات مجموعة العشرين في حال تأثرت دول كبيرة بالمجموعة، لا تشترك بأي تكتل، أو في حال شكل تكتل ثقلاً كبيراً من حيث حجم اقتصاد دولة على بقية الدول من خارجه.
فالصين ترى أنها ستفقد 2.2 % من نموها بتأثير من اتفاقية التجارة عبر المحيط الهادئ، بل إن الرئيس الأمريكي عشية التوصل لاتفاقية عبر المحيط، الذي دولته تعد أكبر عضو فيها، قال «لن نسمح للصين بالتحكم بقواعد الاقتصاد العالمي».
فإذا كان حجم التباين بين أول وثاني أكبر اقتصادَيْن بالعالم بهذا الحجم والتحدي فكيف سيكون هناك تعاون بنَّاء يخدم توجهات مجموعة العشرين؟!
أما الشق المتعلق بالصين فلا يقل أهمية بتأثيره؛ فهي الدولة التي تُعدُّ الأسرع نمواً بالعالم منذ عقود، وأزاحت الكثير من الدول الكبرى اقتصادياً، كاليابان وألمانيا؛ لتصبح بالمرتبة الثانية بعد أمريكا، وباتت جل الاستثمارات تتجه لها، وأكبر مستورد للسلع، ونجد أنها أخذت القرار لتحول كبير باقتصادها، يستهدف رفع تأثير المستهلك الصيني بالنمو الاقتصادي والناتج المحلي، من خلال خطوات تستهدف تغييراً بأسعار صرف العملة، وخطة اقتصادية كاملة لزيادة حجم الطبقة المتوسطة في المجتمع الصيني؛ ما يعني أيضاً تباطؤاً بالنمو، أصبح واضحاً باقتصادها، وتحوُّلاً سيؤثر على حجم تجارتها العالمية ونمو الطلب على السلع فيها، وسيكون لذلك تأثير على باقي اقتصاديات الدول الناشئة التي ترتبط بأسواق الصين.
فإذا كانت خطتهم ذات مدة زمنية قصيرة فإن التأثير السلبي سيكون كبيراً خلال مرحلة التحول؛ ما يعني أنه لا بد أن يراعى علاقة الشركاء معها بحيث يكون تحولها على مدى زمني طويل نسبياً، ولا يؤدي لمزيد من التقلبات السلبية الحادة بأسعار السلع، وكذلك بالاستثمارات التي ضخت باقتصادها من دول وشركات أجنبية؛ حتى تبقى اقتصاداً موثوقاً به؛ يستوعب ويحمي المستثمرين من الخارج.
قمة مجموعة العشرين في تركيا تُعدُّ مفصلية ومنعطفاً مهماً بملف الاقتصاد العالمي، ولا بد أن تتوافر الإرادة لدى الأعضاء، خصوصاً الكبار منهم المؤثرين بالسياسات النقدية والمالية، وكذلك الضالعون بملفات سياسية دولية ضخمة، لإيجاد حلول وتوافق على المضي قدماً لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والسياسي الدوليَّيْن؛ حتى يتمكن العالم من تجاوز التحديات التي تواجهه منذ نشوب الأزمة المالية العالمية عام 2008م، وما تبعها من اضطرابات سياسية، أدت لكوارث إنسانية.
فالمجموعة تضم الأعضاء الخمسة الدائمين بمجلس الأمن، وكذلك أكثر من 80 في المائة من حجم الاقتصاد العالمي، ونسبة مماثلة للتجارة البينية الدولية، بما يُظهر قدرة المجموعة على الحلول وتجاوز التحديات والانسجام بالتوجهات الكلية والفردية بعيداً عن المواجهات القائمة حالياً على مبدأ «كسر العظم».
نقلا عن الجزيرة