شهدت الأسواق المالية خلال الأيام الماضية اضطرابات غير مواتية في حركتها بعدما اتضحت الصعوبات التي تواجه الصين.
ولا شك في أن الاقتصاد الصيني الذي يعد الثاني لجهة حجم الناتج المحلي الإجمالي (مقدر بـ 10 تريليونات دولار) بعد الولايات المتحدة، يمثل أهمية لبقية بلدان العالم التي ترتبط بعلاقات تجارية واستثمارية غدت مهمة مع ذلك الاقتصاد.
وبالرغم من محاولات الصين تعويم سوق المال لديها من خلال سياسات نقدية تمثلت في تخفيض متدرج وسريع لسعر الفائدة وتخفيض سعر صرف العملة من أجل حفز الصادرات، تظل الشكوك قائمة حول مدى قدرة ذلك الاقتصاد على الحفاظ على عافيته وقدرته على النمو، خلافاً للسنوات الماضية.
يرتبط الاقتصاد الصيني بعلاقات عديدة ومتنوعة مع بقية بلدان العالم، فهو يرتبط ببلدان الخليج من خلال استيراد النفط وتصدير السلع والبضائع ذات التكاليف المنخفضة، كما يرتبط بالاقتصادات الآسيوية من خلال التدفقات الاستثمارية والتجارة البينية.
أما الولايات المتحدة فأصبحت ذات علاقات تجارية واستثمارية ومالية معقدة مع الصين، فهناك استثمارات أميركية مهمة في الصين، كما أن الصين تملك أصولاً دولارية متمثلة بسندات خزانة أميركية من خلال صناديقها السيادية العديدة وتُقدَّر قيمة هذه الأصول بما يزيد عن تريليوني دولار.
لكن الاضطرابات في أسواق المال التي أودت بقيم الأصول وكبدت أصحابها خسائر جسيمة، كيف يمكن تفاديها في ظل هذه الأوضاع الاقتصادية السائدة في عالمنا في الوقت الراهن؟
لا شك في أن ما حدث هو نتاج لمخاوف وهواجس متراكمة زادها الوضع الصيني حدة، ولا يمكن أن تستقر الأوضاع في أسواق المال وأسواق النقد من دون تجاوز المشكلات المالية والاقتصادية الهيكلية التي تعانيها الدول الصناعية الرئيسة.
فهل يمكن أن تتجاوز اليابان أوضاعها المتراجعة ومنذ زمن طويل قارب ربع قرن الآن؟ هل ستتمكن دول الاتحاد الأوروبي من إصلاح أوضاع البلدان التي تعاني أزمة ديون سيادية، وعلى رأسها اليونان، وتصلح الأوضاع المصرفية بما يؤدي إلى تحسين عافية النظام المصرفي الأوروبي، خصوصاً في بلدان منطقة اليورو؟
ماذا عن الولايات المتحدة والعجز الكبير في الموازنة الفيديرالية وكيف يمكن تحسين الإيرادات الضريبية والسيطرة على الإنفاق العام؟
هذه أسئلة مشروعة على رغم قناعة العديد من الاقتصاديين المرموقين بأن النظام الاقتصادي الدولي أصبح أقدر على مواجهة الأخطار التي تواجه المراكز الاقتصادية العالمية الرئيسة بفعل الأنظمة والتشريعات المعتمدة منذ عقود طويلة، وبعد كارثة الكساد العظيم في 1929.
لكن هناك أهمية لمواجهة هذه المشكلات من خلال سياسات وبرامج اقتصادية فاعلة حتى لا تتضرر المصالح الاقتصادية ذات الأهمية، على صعيد الأفراد والأسر والمؤسسات الخاصة والأموال العامة.
ويتعين عدم إهمال القضايا ذات الأولوية، ولذلك تأتي معالجة بلدان الاتحاد الأوروبي أزمة اليونان في سياق الحرص على حماية النظام المالي والمصرفي في بلدان الاتحاد الأوروبي، وتحصين منظومة اليورو، حتى لو كانت تكاليف حزم الإنقاذ في اليونان مرتفعة أو كانت الحكومة اليونانية غير فاعلة تماماً في إنجاز الإصلاحات المالية والاقتصادية في البلاد بموجب مقاييس البلدان المتقدمة في أوروبا، مثل ألمانيا.
وفي نهاية المطاف، لا بد من أن تؤدي هذه الإصلاحات إلى تعديل في مناهج الإدارة الاقتصادية في بلدان جنوب أوروبا وترتقي بدرجة الشعور بالمسؤولية تجاه الالتزامات التي فرضتها الديون الناتجة من سياسات إنفاق غير منضبطة.
وربما هناك بلدان في عالمنا هذا، مثل اليونان وغيرها، لا يمكن أن تعدل السياسات الاقتصادية والمالية المنفلتة من دون المرور بأزمات حادة قد تقربها من الإفلاس.
وهناك العديد من السياسيين في هذه البلدان ممن لا يعيرون اهتماماً بالالتزامات التي تنتج عن سياسات حكومية غير متوافقة مع القدرات الحقيقية للبلاد.
الاضطرابات الأخيرة دفعت أسعار النفط إلى مستويات غير مسبوقة منذ مطلع 2009، ولذلك هبط سعر الخام الأميركي إلى ما دون 40 دولاراً للبرميل وسعر نفط «برنت» إلى ما دون 45 دولاراً للبرميل واستمرت الأسعار المتدنية أياماً.
ولا شك في أن هذا الهبوط في السعر جلب قلقاً للعديد من المسؤولين في البلدان المنتجة للنفط، خصوصاً بلدان «أوبك» ومنها البلدان المنتجة في الخليج، وذلك خوفاً على الإيرادات السيادية التي توظف من خلال أدوات الإنفاق العام.
هذا الانخفاض في أسعار النفط يؤدي في رأي العديد من المراقبين الاقتصاديين دوراً إيجابياً قد يساعد البلدان المستهلكة، خصوصاً الدول الصناعية الأساسية مثل الولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي والصين واليابان، في تحسين عمليات الإنتاج والسيطرة على تكاليف الوقود ويمكّن المستهلكين من زيادة الإنفاق.
ولذلك فإن ما يجري الآن من اضطرابات اقتصادية وانكماش اقتصادي في بلدان أساسية، مثل الصين، يجب أن يساهم في دفع البلدان المنتجة للنفط إلى مراجعة سياساتها الاقتصادية والسيطرة على الإنفاق وتطوير إمكانياتها المتنوعة.
تبقى بعد ذلك الإشارة إلى أن الاقتصاد العالمي يظل مترابطاً ولا يمكن الزعم بأن أياً من دول العالم، المتقدمة أو النامية، قادر على تجاوز المحن التي تظهر بين فينة وأخرى في المراكز الرئيسة.
نقلا عن الحياة