كان أحد الأطباء السابقين يُعرف بمبادرته لوصف دواء مسكّن واحد لايغيره، لجميع المرضى والأمراض، أيا كان المرض والألم، بعد فحص شكلي سريع، حتى غدا هذا الطبيب محلا للتندر والسخرية لتكراره الدائم لهذه الوصفة.
إلى حد ما تحوّل صندوق النقد الدولي إلى صورة مشابهة لصورة هذا الطبيب، حيث يقدم حلولا تقليدية لمشاكل غير تقليدية، فوصفة الصندوق جاهزة ومكررة لمعظم أمراض الاقتصاد ولمعظم الدول دون تفريق، وهي:
العمل على تقليص عجز الموازنة بتخفيض الدعم الحكومي للسلع والخدمات وتقليص الأجور والنفقات وفرض ضرائب ورسوم.
فعلى سبيل المثال قدم الصندوق وصفته المعتادة لإحدى أفسد دول العالم وهي سوريا في العام 2010، حيث أوصاها حينها بتطبيق ضريبة جديدة على الاستهلاك ولم يوصها بالكف عن الفساد لتحقق وفورات مالية بالمليارات !!.
تمرّ اقتصادات المنطقة والعالم حاليا بمتغيرات وتحديات جديدة وعاصفة وثقيلة، تحتاج معها لحلول متطورة تواكب متطلبات العصر ومتغيراته، وتتناغم مع حجم المشكلة وتضع حلولا لها ضمن قوالب مناسبة، فالمشاكل غير التقليدية للاقتصاد بحاجة لحلول غير تقليدية.
نعم أصبحت مشاكل الاقتصاد غير تقليدية، وتداخلت بالمشاكل السياسية ومخاطرها المتزايدة بشكل أكبر مما كانت عليه سابقا، وأصبحت تطورات الحياة متسارعة بشكل كبير وفي جوانب كثيرة، منها:
التطورات التقنية والرقمية، وعالم الانترنت الآخذ بالاتساع السريع والتعمق في مناحي الحياة، والنفط الصخري، ومصادر الطاقة الأخرى، وتطورات العلوم والاختراعات، وجميع ما ذكر يتطلب مجهودا اقتصاديا يواكبها ويستغلها وينأى عن إهمالها.
لم يعد ضبط الإنفاق في الموازنة كفيلا سوى بتخفيف العجز آنيا بنسب محدودة، ومخاطره قد تكون أكبر من منافعه (أقصد تماما المخاطر وليس المضار)، وأمام مدٍ من النمو السكاني الأعلى عالميا في الشرق الأوسط، أصبح العلم والابتكار، وتسهيل الأعمال والاستثمار، والتوجه نحو اقتصاد المعرفة هو السبيل الأنسب اقتصاديا لعموم البلدان نفطية كانت أو غير نفطية.
إن أهم ما تملكه منطقتنا هو الموارد البشرية، فأعدادها مناسبة وفي ازدياد، وهو ما يتطلب من المعنيين جعلها ثروة ومصدر تنمية، لاعبئا ومصدر تعاسة وضغوط.
لنستفيد من التاريخ في صناعة مستقبل مشرق، فقد حوّلت المبتكرات والاختراعات دول أوروبا واليابان وغيرها، من دول هامشية إلى دول عظمى، حيث لاموارد طبيعية هامة تحويها تلك البلاد ورغم ذلك صعدت بما صنعت.
الابتكار والإبداع بلعبان دورا في تحويل الموارد البشرية إلى موارد منتجة بكفاءة، فما نعيشه ونتنعم به من مخترعات طالت جميع تفاصيل الحياة، ما كان ليحصل إلا بالابتكار والإبداع الذي وهبه الله تعالى للمخترعين الذين استثمروا مواهبهم وعقولهم فيما ينفع البشرية.
الابتكار والإبداع والعقول، هي الموارد الاقتصادية الوحيدة التي لاتخضع لنظرية المزايا النسبية التي ترسم صورة الاقتصاد الدولي والتجارة العالمية، لأنها لاتختص بدولة ولا شعب ولا منطقة، لكن المحك فيها هو العزيمة الصادقة في إيجاد بيئة خصبة لها.
بل إن الإبداع والابتكار وتطوير المعارف المتخصصة سيعزز ويطور الميزة النسبية التي يملكها أي بلد بأي قطاع كان، كالقطاع الزراعي أو النفطي أو الصناعي أو غيره، فعلى سبيل المثال من الممكن زيادة الإنتاج الزراعي من الهكتار الواحد عبر تقنيات متخصصة ومبتكرات ترفع من إنتاجيته بشكل كبير وهذا أمر ملموس.
والابتكار والإبداع وتطوير البنية التحتية الرقمية والتقنية يحقق وفورات جمة، من مجالات عدة كتخفيف بيروقراطية الدولة ومؤسسات القطاع الخاص، أو خفض تكاليف المنتجات، وتطوير قطاع الصناعة بما يحقق وفرا كبيرا على المجتمع من تخفيف نفقات وتكاليف الاستيراد بالاكتفاء على الأقل إن لم يرقى إلى التصدير، وفي جوانب أخرى كقطاع الصحة مثلا تتحقق وفورات من خفض تكلفة العلاج طويل الأمد أو العلاج بالخارج، بتطوير المستشفيات والأدوية وطرق العلاج والاستشفاء.
ومن المهم جدا المبادرة إلى تطوير التعليم ومؤسساته ورعاية الكفاءات والمواهب والعقول، وفتح المجال للاستثمار المحلي والأجنبي أيضا بما يدعم ويفيد اقتصاد البلاد ويعزز من إمكانات أفراد المجتمع وينقل التقنية ويحقق تشغيلا ووظائف ومداخيل مالية جيدة.
إن الاقتصاد والمجتمع سيواجه مشاكل جمة إن استمرت إدارته بطرق تقليدية، تعتمد على قطاع واحد أو مورد رئيسي وتعتاش منه، حتى لو تم تكديس احتياطيات مالية ستستنزف لاحقا، والأمر لا يتعلق بالبلدان النفطية فقط، بل جميع الدول التي تعتمد على قطاع أو قطاعين فقط في اقتصادها لاسيما دولنا الزراعية التي ترهن اقتصادها للأمطار والأنهار ومشاكل السدود ونحوها، بما يرسم صورة واضحة لاختلال هياكل الإنتاج.
ومن ضمن المشاكل التي سيواجهها الاقتصاد، التطورات التقنية الهائلة في الصناعة والخدمات وحتى التجارة وغيرها، والتي قد تؤدي للاستغناء عن المزيد من العمالة التقليدية، ليصبح خطر البطالة في ازدياد، ومالم يتم استثمار الموارد البشرية في تعليم متطور مع بيئة مشجعة وحاضنة للإبداع والابتكار فإن هذا الخطر سيقع لامحالة.
التنمية الشاملة الواعدة هي تلك التي تطور الفرد وتؤسس بنية تحتية متكاملة متناسقة، مادية وعلمية ورقمية، وتجعل الاقتصاد مسلحا بالموارد البشرية ذات التعليم المناسب والمتعمق، حيث يوفر لهذه الطاقات البشرية كل مقومات استثمار طاقاتها وابداعاتها وابتكاراتها وينميها في محاضن خاصة، ويمنحها حرية الابتكار والتطوير، حتى لا يصبح مستقبل المجتمع رهنا لتقلبات القطاع الواحد وتذبذبات سوقه.