مع تفاقم أزمة الديون اليونانية يحاول محللون ربط الأزمة باعتماد اليورو. لكن ما هي في الأصل مسببات أزمة ديون اليونان؟
معروف ان اليونان قبل الأزمة توسعت في الإنفاق بما رفع العجز في موازناتها على مدى سنوات، حتى بلغ أكثر من 13 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، علماً بأن اتفاق ماسترخت الذي أسس اليورو، يشدد على ضبط الإنفاق العام في البلدان الأعضاء، فلا يتجاوز عجز الموازنة ثلاثة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
لا شك في ان العديد من البلدان الأوروبية التي اعتمدت العملة الموحدة أخفقت في ضبط الإنفاق وتجاوز عجزها المستوى المحدد في الاتفاق، كما ارتفعت ديونها السيادية إلى مستويات فاقت 100 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ومن هذه البلدان إيطاليا وإسبانيا والبرتغال وإرلندا.
بيد ان هذه البلدان بعد بداية الأزمة المالية العالمية في 2008 أعادت النظر في أوضاعها المالية ورشدت الإنفاق وحسنت الموارد الضريبية إلى حد معقول ما أدى إلى خفض مستوى العجز. ولا تزال هذه البلدان تعاني أوضاعاً اقتصادية صعبة، وثمة ركود ينتاب قطاعات عديدة.
وتبنت اليونان أيضاً برامج للحد من الإنفاق وقبلت بإجراءات التقشف التي طالب بها الدائنون مقابل الحصول على تمويلات جديدة تمكنها من مواجهة التزامات خدمة الديون ومواجهة أعباء الإنفاق الأساسية. لكن اليونان تواجه الآن، مسألة تسديد الالتزامات في أوانها وستعجز عن ذلك ما لم تتوافر السيولة اللازمة التي يمكن ان يمدها بها الدائنون، وهؤلاء اشترطوا إجراءات مالية جديدة لم تحظ بموافقة حكومة اليسار في أثينا ولا بموافقة اليونانيين كما تبين من استفتاء الأحد.
ويعتقد اقتصاديون بأن نظام الوحدة النقدية عطّل قدرة اليونان على مواجهة أزمتها الاقتصادية بنفسها. ويرى الاقتصادي الأميركي الحائز جائزة نوبل للإقتصاد، بول كروغمان، ان اعتماد اليورو من قبل اليونان أبطل القدرة على تبني سياسات نقدية مستقلة عن المصرف المركزي الأوروبي.
فاليونان، يقول، لو كانت مستقلة نقدياً، كانت تستطيع ان تعيد النظر بسعر صرف العملة، مثل خفضها لتعزيز الصادرات الوطنية أو رفع سعر الفائدة لجذب الأموال أو طرح سندات بالعملة الوطنية، الدراخما، لتمويل العجز في الموازنة الحكومية.
لكن التساؤل المهم هو: إلى أين ستذهب الصادرات اليونانية بدلاً من دول الجوار الأوروبية؟ ثم من هي المؤسسات التي ستكتتب أو تقتني السندات اليونانية المقومة بالدراخما، إذا لم تفعل ذلك مؤسسات أوروبية؟ إذاً، هل نتج تفاقم الأزمة عن عضوية اليونان في منطقة اليورو أم ان الأسباب الحقيقية كامنة في طبيعة الاقتصاد السياسي اليوناني؟
لا ريب في ان الديون تفاقمت بفعل الإنفاق غير الرشيد من الحكومات اليونانية المتعاقبة التي لم تتمكن من كبح جماح المطالب الشعبية، أو الشعبوية، ومن ثم خضعت لسياسات مالية توسعت في الإنفاق الجاري ولم تعمل لتأمين الإيرادات اللازمة للخزينة العامة نظراً إلى ضعف الأنظمة الضريبية والتقاعس عن تحصيل الضرائب المحددة وفق القوانين السارية أو أي إيرادات أخرى.
ولذلك مرت اليونان خلال السنوات القليلة الماضية بأوضاع سياسية غير مستقرة وأجريت انتخابات عديدة جاءت هذه الحكومة الحالية التي تنتهج قيماً اقتصادية تنتمي إلى مدارس اليسار الاشتراكي، وربما بنكهة متطرفة.
بعد مفاوضات عسيرة طرح الدائنون، المصرف المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي والمفوضية الأوروبية، صيغة اتفاق جديدة للتعامل مع مسألة الديون وكيفية إدارة الاقتصاد اليوناني.
هذا الاتفاق كان يهدف إلى تعويم الاقتصاد اليوناني وتمكين الحكومة اليونانية من تسديد الالتزامات الشهرية للدائنين، مثل 1.5 بليون يورو استحقت نهاية حزيران (يونيو) لصندوق النقد، و3.5 بليون يورو تستحق للمصرف المركزي الأوروبي في 20 تموز (يوليو).
وطرحت الحكومة اليونانية الاتفاق المقترح على الناخبين في الاستفتاء، وحضتهم على التصويت بلا. لكن الاتفاق المقترح شمل تفاصيل فنية معقدة، فهل أتيح المجال للمواطنين لفهم هذه التفاصيل ومعانيها واستحقاقاتها في شكل يؤدي إلى التصويت المناسب؟ هناك من ينتقد رئيس الوزراء اليوناني أكسيس تسيبراس وحكومته على استخدام آلية الاستفتاء لمواجهة الدائنين في حين كان عليه ان يستمر في المفاوضات لتحسين الشروط أو القبول بها وتطبيق السياسات المالية المقترحة.
ومهما يكن من أمر جرى الاستفتاء وظهرت نتيجته.
في المقابل، تحررت غالبية المصارف والمؤسسات المالية الدائنة الأساسية لليونان من ديون البلاد سواء كانت سندات أو قروضاً اعتيادية بعدما باعتها في الأسواق المالية، واستحوذ صندوق النقد والمصرف المركزي الأوروبي والمفوضية الأوروبية على معظم تلك الأصول، لذلك لن تؤدي هذه الأزمة بين الاتحاد الأوروبي واليونان إلى مشكلات صعبة للمصارف الأوروبية.
ويبدو ان منطقة اليورو أصبحت الآن أكثر قدرة على مواجهة المصاعب التي تعانيها اليونان نظراً إلى تمكن الدول الأخرى المدينة من إعادة ترتيب أوضاعها المالية وتبني سياسات أكثر ملاءمة لاتفاق ماسترخت.
ما يُطرَح من محاولات لربط أزمة الديون اليونانية بنظام اليورو قد لا يكون دقيقاً ولا بد من البحث عن الأسباب الحقيقية المتعلقة بالفلسفة السياسية والاقتصادية السائدة في البلاد.
فعند دخول أي بلد في نظام نقدي يشمل مجموعة البلدان، مثل منطقة اليورو، لا بد من الالتزام بالشروط والمعايير المحددة، ومن ثم تبني سياسات مالية ونقدية ملائمة من أجل تجاوز أي أزمات محتملة.
وغني عن البيان ان هذا الالتزام سيعني التخلي عن سياسات سابقة، ومنها سياسات الرعاية الاجتماعية وآليات الدعم وفلسفة التوظيف في الدوائر الحكومية وربما إعادة النظر في أنظمة التقاعد.
نقلا عن الحياة