تجاوزت أسعار النفط أخيراً حاجز 60 دولاراً للبرميل، وقد يكون هذا المستوى مناسباً لمواجهة أعباء الإنفاق العام في البلدان المنتجة، خصوصاً في الخليج، لكن ذلك لا يعفي الإدارات الحكومية من مواجهة استحقاقات إصلاح السياسات المالية.
في بداية هذا العام، بعدما أصبح تراجع أسعار النفط أمراً واقعاً، دعا صندوق النقد الدولي دول الخليج إلى إجراء مراجعات شاملة لسياسات الإنفاق وتعديل البرامج المتنوعة وترتيب الموازنات بما يمنع حدوث حالات عجز كبيرة فيها.
وتوقع الصندوق أن يراوح سعر البرميل حول 57 دولاراً خلال هذا العام، ويعني ذلك أن بلدان المنطقة لن تحقق الفائض الذي اعتادته على مدار السنوات العشر الماضية، بل ربما لن تتمكن من موازنة النفقات والإيرادات، ما يعني احتمال حصول حالات عجز.
ويُستبعَد أن تواجه بلدان الخليج مشاكل في تمويل العجز لأن السعودية والكويت وقطر والإمارات تملك صناديق سيادية مهمة يمكنها أن تحقق عائدات تغطي حالات العجز المتوقعة.
ويمكن هذه البلدان تسييل أصول لمواجهة أي التزامات ناشئة تتعلق بالإنفاق. لكن يفترض العمل لخفض النفقات، خصوصاً تلك غير الأساسية، من أجل أن تكون الإيرادات كافية لمجمل الإنفاق العام الجاري والرأسمالي.
خلال 2014، قدِّر الفائض بما يعادل 4.6 في المئة من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي لبلدان مجلس التعاون الخليجية.
لكن بلدان الخليج كانت عازمة على تطوير بنيتها التحتية وإقامة الكثير من المشاريع الارتكازية والتوسع في إنشاء المدارس والمعاهد التعليمية والمستشفيات والموانئ والمطارات ناهيك عن الطرق وخدمات الكهرباء والماء.
هل يمكن أن تتأثر هذه المشاريع بالمراجعات الناجمة عن تراجع أسعار النفط؟
أكد مسؤولون في المنطقة أن المشاريع الإنمائية لن تتأثر بانخفاض أسعار النفط في شكل كبير.
وستراجع الإدارات الحكومية الإنفاق الرأسمالي قبل الإنفاق الجاري، نظراً إلى حساسية الجوانب الاجتماعية والسياسية وطبيعة الاقتصادات الريعية في بلدان المنطقة. لذلك، لا بد من تأجيل مشاريع تضطلع الحكومات بتنفيذها بالأموال العامة.
لكن القطاع الخاص يمكن تكليفه إنجاز مشاريع من هذا النوع من خلال برامج البناء والتشغيل والتحويل (بي أو تي) التي جرى استخدام صيغها في أكثر من بلد خليجي لإنجاز مشاريع حيوية.
ويمكّن الأمر القطاع الخاص من توظيف أمواله في مشاريع ستعود بعد سنوات إلى ملكية الدولة بعدما يستعيد المستثمرون أموالهم ويحققون العائدات الملائمة منها، على رغم وجود مشاريع خدمية قد لا تحقق العائدات المناسبة.
هل يمكن أن تعمل الحكومات في ظل هذه الظروف المالية غير المواتية لتبني فلسفة اقتصادية مختلفة وتحزم أمرها وتطرح كثيراً من النشاطات والأعمال على القطاع الخاص لتملكها وإدارتها، ومن ثم تتحرر الحكومات من التزامات عدة؟ وهل يمكن أن تحفز الأسعار المنخفضة للنفط الحكومات لإصلاح الهياكل الاقتصادية والارتقاء بعملية توظيف الموارد المالية والاقتصادية؟ وهل سيؤدي خفض الإنفاق إلى تراجع في معدلات النمو الاقتصادي؟
اعتمدت بلدان المنطقة منذ ستة عقود من الزمن الإنفاق العام وآلياته وأدواته لتحقيق التوسع في النشاط الاقتصادي.
بل إن رجال الأعمال والمؤسسات الاقتصادية في القطاعات غير النفطية اعتمدوا على إنفاق الحكومات لجني إيرادات وتحقيق عائدات.
ويتعين على أي مراقب اقتصادي أن يتوقع تراجع معدلات النمو الاقتصادي خلال هذا العام، وربما الأعوام المقبلة إذا ظلت أسعار النفط تدور حول مستوياتها الحالية.
لا يُتوقَّع أن تزيد معدلات النمو في السعودية والإمارات وقطر والكويت وعُمان والبحرين عن مستويات السنوات الماضية، فهي قد تتراوح بين 3 و5 في المئة خلال هذا العام. هذه التوقعات قد تدفع بعض الحكومات إلى استخدام سياسات تمويل العجز من أجل إنجاز المشاريع الحيوية.
لكن هذه السياسات تراهن على تحسن أسعار النفط في الشهور والسنوات المقبلة لمواجهة الالتزامات المستقبلية. لذلك، لا بد من توظيف أموال القطاع الخاص وإمكانات المصارف في تمويل المشاريع الحيوية وإنجازها، أو الشروع في عمليات إصلاح واسعة النطاق تحرر اقتصادات الخليج من فلسفة الريع وهيمنة الدولة على النشاطات الاقتصادية الرئيسية.
ستظل بلدان لسنوات وعقود من الزمن تعتمد على إنتاج النفط وتصديره، وسيكون تنويع مصادر الدخل الأساسية محدوداً نظراً إلى محدودية الموارد الاقتصادية الأخرى وعدم تبني الحكومات في وقت مبكر، أي في بداية عصر النفط، فلسفات اقتصادية تؤكد أهمية التحول إلى اقتصادات تعتمد على العلوم والمعرفة وتعزيز التنمية البشرية.
هناك من يتوقع أن تتحسن أسعار النفط بعد أن يراجع المستثمرون في النفط والغاز الصخريين استراتيجياتهم بعد أن أصبح المردود من إنتاج هذه النوعية من النفط والغاز غير مجدٍ. وربما تفلح هذه المراهنة لكن إلى حين، فثمة إمكانات تقنية قد تخفض التكاليف في قطاع النفط والغاز الصخريين وتمكّن من تحقيق الجدوى الاقتصادية.
هكذا يصبح لزاماً في دول المنطقة التعامل مع هذه الأوضاع كفرصة تاريخية للمراجعة المسؤولة للسياسات الاقتصادية والمالية وأسس توظيف الموارد الوطنية. وأضحت مراجعة السياسات المالية ذات أهمية لكن يجب ألا يكون التعامل على أسس واعتبارات الأجل القصير فالأمر يستدعي مراجعات شاملة لهذه السياسات تضع أسساً واضحة للإنفاق لزمن طويل، وبذلك يصبح بالإمكان تعزيز القدرة على الإصلاح الاقتصادي الشامل في بلدان المنطقة.
نقلا عن الحياة