عادت "الضرائب" عنواناً لنقاشات صانعي القرار في الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء، وموضوعَ بحثٍ لأكاديمييه وإعلامه. وتناسبت حدة هذا النقاش وجديته مع تنبؤات دول الاتحاد الأوروبي بأثر التبعات المالية والاقتصادية للأزمة القائمة على موازناتها والتزاماتها الخارجية والداخلية.
ورغم أن الحديث عن تعديل السياسات الضريبية ليس أمراً استثنائياً أو طارئاً، إلا أن اللافت هذا العام هو التركيز على ممارسات الشركات متعددة الجنسية (العالمية) العاملة في دول الاتحاد الأوروبي ومدى التزامها الضريبي.
فمنذ مطلع العام الحالي، لا يكاد ينقضي الشهر إلا وتعلن مفوضية الاتحاد الأوروبي عن إخضاع إحدى الشركات الكبرى للتحقيق وتدقيق ممارساتها.
لوكسمبورغ وايرلندا تحولتا بدورهما إلى مركز الاهتمام الأوروبي في هذا الجانب نظراً للتسهيلات الضريبية –محل التساؤل– التي تمنحها الدولتان للكيانات القانونية المسجلة فيها. وبحسب بعض التقارير الصحفية، بلغ عدد الشركات التي استفادت من تسهيلات أمارة لوكسمبورغ لوحدها أكثر من 340 شركة، من بينها شركات بيبسي كولا، وفيديكس، وايكيا، وأمازون.
آخر الشركات التي خضعت للتحقيقات هي "ماكدونالدز"، والتي يُعتقد أن طريقتها في تأسيس شركاتها في أوروبا تسببت لوحدها في خسارة حكومات الدول الأوروبية لأكثر من مليار يورو من المداخيل الضريبية للفترة من 2009م إلى 2013م.
إلا أن أهم قضايا هذا العام كانت قضية التفضيلات الضريبية التي استفادت منها شركة "أمازون" في صفقتها مع أمارة لوكسمبورغ عام 2003م، والتي يبدو، من سياق تعامل المفوضية الأوروبية معها، أن آثارها ستطال كافة الشركات متعددة الجنسية العاملة في دول الاتحاد الأوروبي، خصوصاً وأن المحور الرئيس لتحقيقات المفوضية الأوروبية، بحسب تقريرها، في القضية هو "التجنب/التهرب الضريبي".
القضية متعددة الأبعاد؛ منها ما هو متعلق بإمارة "لوكسمبورغ"، ومدى موافقة الصفقة الضريبية مع شركة "أمازون" لقانون الاتحاد الأوروبي في شأن الدعم الحكومي –المباشر أو غير المباشر– للمنشآت التجارية، وتأثير ذلك على تنافسية وعمل "السوق المشتركة" في الاتحاد الأوروبي، ومنها ما هو مرتبط بمجموعة شركات "أمازون" في أوروبا، وما إذا كانت التعاملات الداخلية بين شركات المجموعة قد انطوت على تحايل محاسبي بهدف التجنب/التهرب الضريبي.
لا زالت القضية محل بحث المفوضية الأوروبية، ولوكسمبورغ لا زالت مطالبةً بتقديم مزيد من الايضاحات حيال عددٍ من النقاط التفصيلية.
لكن ما يهم، لأغراض هذا المقال، هو الإشارة لأهمية متانة البنية التنظيمية وأهمية تكامل عمل المنظومة الرقابية على الشركات والمؤسسات وتطوير آلياتها لتصبح أكثر قدرةً على البحث في التفاصيل، أيّـاً كان عمق وتعقيد هذه التفاصيل، للوصول إلى فهمٍ أفضل لطبيعة عمل الشركات قبل اتخاذ الإجراءات الرقابية اللازمة.
بحسب البيان الصحفي الذي رافق إطلاق منصة "قوائم" الالكترونية، التي أطلقتها وزارة التجارة والصناعة ومصلحة الزكاة والدخل والهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين، كانت أبرز أهداف المشروع هي توفير بيانات اقتصادية أكبر لرفد صناعة القرار الاقتصادي في المملكة. وهي خطوة على الطريق الصحيح للرقابة على القوائم المالية، لكنها تحتاج اليوم إلى الذهاب أبعد ذلك بإضافة متطلب إدراج "الدفاتر التجارية" الكترونياً.
فقد صدر نظام "الدفاتر التجارية" قبل أكثر من 25 عاماً، والذي ألزم ممارسي العمل التجاري في المملكة بمسك الدفاتر التجارية التي تستلزمها طبيعة عمل الشركة وأهميتها بطريقة تكفل بيان المركز المالي بدقة، وبيان الحقوق والالتزامات المتعلقة بالشركة.
وجاء نظام "ضريبة الدخل" مؤكداً على أهمية الاحتفاظ بالدفاتر التجارية لتحديد إجمالي الدخل والمصاريف للشركات الخاضعة لأحكام النظام.
تكمن أهمية ربط "الدفاتر التجارية" بـ "قوائم"، بالإضافة إلى تحقيق المتطلبات النظامية الواردة في نظام "ضريبة الدخل"، في دعم قاعدة البيانات الاقتصادية التي أسست لأجلها المنصة الالكترونية، إضافة إلى توفير ما تحتاج إليه العملية الرقابية من معلومات وإثباتات.
إذ يمكن من خلال عملية الربط هذه معرفة التكاليف الحقيقية للسلع والخدمات وكافة التعاملات التجارية، خصوصاً ما يتعلق منها بالدعم الحكومي –المباشر وغير المباشر– ومدى تحققه للمستفيد النهائي من دعم هذه السلع والخدمات، كما يمكن رصد الممارسات الإدارية والمحاسبية في إدارة هذه الشركات ومدى سلامتها ونزاهتها.
من حيث المبدأ، فإن ربط الدفاتر التجارية ليس بدعاً من الأمر، ولا بالأمر الاستثنائي، فأفضل قواعد البيانات الاقتصادية الأمريكية، على سبيل المثال، عن أسعار السلع والخدمات وتكلفتها الحقيقية موجودة عند مصلحة الضرائب الأمريكية (IRS)، وكذلك هو الحال في ألمانيا عند مكتب الضرائب المركزي الفيدرالي (BZSt).
"قوائم" هو الخطوة الأولى الصحيحة التي تتطلب خطواتٍ إضافية، ومنها الربط الالكتروني للدفاتر التجارية، لتكتمل منظومة الرقابة المالية على تعاملات المنشآت التجارية العاملة في المملكة.
المفارقة، والحديث عن استقطاب الاستثمارات الأجنبية والرقابة عليها، أن التحركات الأوروبية الواردة في بداية المقال جاءت بالتزامن مع تذكير المملكة بحزمة الامتيازات الضريبية التي تمنحها للاستثمارات الأجنبية في مقابل تطوير الكوادر البشرية، وذلك على لسان محافظ الهيئة العامة للاستثمار في كلمته لمنتدى جازان الاقتصادي، والتي ذكّر فيها بمنح المستثمر الأجنبي في المناطق الواعدة خصماً ضريبياً بمقدار 50% من تكاليف تدريب السعوديين، وكذلك 50% من تكاليف رواتب السعوديين، ومنح المشاريع الصناعية خصماً ضريبياً بنسبة 15% من حصة غير السعودي.
هذه الحزمة من الامتيازات الضريبية تأتي في وقتٍ تشير الهيئة ذاتها إلى أن الاستثمارات الأجنبية لا زالت دون المستوى المطلوب !
ومعها يأتي السؤال: كم خسرت المملكة من المداخيل الضريبية، وعدم تحقق تطوير الموارد البشرية، وعدم تحسن الخدمات ولا انخفاض أسعار السلع، في ظل غياب الأداة الرقابية الفاعلة على الامتيازات الضريبية ودفاترها التجارية؟