لماذا لا نستنسخ «الدماغ الكوري» ؟

23/02/2015 4
جمال بنون

تجربة التنمية في كوريا الجنوبية تستحق من خبراء التخطيط في عالمنا العربي التعرف عليها عن قرب، لأنها استطاعت خلال فترة وجيزة من انقسامها ما بين شمالية وجنوبية، وخوضها حرباً استمرت ثلاثة أعوام، انتهت باتفاق بين الدولتين عام 1953 وبعدها نما الاقتصاد الكوري الجنوبي بشكل ملحوظ وأصبحت ذات اقتصاد رئيسي، والجانب اللافت في التجربة الكورية هو التطور التعليمي المذهل للعالم، فالمعلومات تشير إلى أن نسبة التعليم في كوريا تبلغ 96 في المئة، وتملك ثروة بشرية هائلة تتمثل في شعب جيد التعليم.

خلال مؤتمر القمة الحكومية الثالث الذي عقد أخيراً في دبي، كان من بين المتحدثين نائب رئيس الوزراء وزير التعليم الكوري هوانغ ووي، الذي قال إن بلاده انتقلت خلال 60 عاماً فقط من أكثر الدول فقراً إلى دولة تشهد تطوراً ملحوظاً في المجال التعليمي، ومن دولة مستفيدة من المساعدات إلى دولة مانحة، وأهم الإنجازات الرائدة كما يقول وزير التعليم، هو تمتع الطلبة عند بلوغ 15 عاماً بمستوى عالٍ من المهارات التي تمكنهم من الابتكار. فيما تركز بلاده على جودة التعليم الثانوي.

ونشرت شركة طومسون رويترز الإعلامية سلسلة بحوث القمة الحكومية بعنوان «الابتكار في الخدمات الحكومية مقارنات دولية»، وأشارت فيه إلى تجربة «الدماغ الكوري 21»، وهو مشروع من مرحلتين يهدف إلى تطوير تنافسية كليات الدراسات العليا والجامعات البحثية عالمياً، إضافة إلى بناء قدرات بشرية بحثية عالية الجودة في كوريا، ويشير التقرير إلى أن البرنامج يقوم بتمويل الزمالات الدراسية للخريجين الجامعيين وخريجي الدكتوراه وأساتذة الأبحاث المتعاقد معهم والمنضمين إلى مجموعات الأبحاث لدى أفضل الجامعات، وللتأهل إلى البرنامج والحصول على التمويل الحكومي، يتعيّن على الجامعات تنظيم اتحادات بحثية مكونة من هيئة أساتذة الجامعة، والتعاون في ما بينهم في مشاريع محددة.

مشروع الدماغ الكوري وهكذا اسمه، تم إطلاق المرحلة الأولى منه عام 1999 بموازنة تبلغ بليون و200 مليون دولار، وبدأ المشروع الثاني عام 2006 بموازنة تبلغ بليون و800 مليون دولار، وبعد الانتهاء من مرحلتي برنامج الدماغ الكوري 21، أطلقت الحكومة برنامج الدماغ الكوري 21 «بلس» عام 2013، الذي سيعمل حتى عام 2019. إجمالي استثمارات هذا المشروع الجديد بليونا دولار، والهدف هو إنتاج قفزة نوعية بدلاً من النمو الكمي، وبحسب التقرير، فإن أموال الدماغ الكوري 21 مخصصة بصورة أساسية للفرق البحثية وليس الجامعات، وهذا يسهم في التركيز على أهداف المشروع وتقييم أداء المنتفعين، وجرى الربط بين الدعم المالي المقدم إلى الجامعات وجهود الجامعات في التطوير المتعلق بالمناهج الدراسية وسياسات القبول وأنظمة تقييم أداء الكليات.

من التجارب في كوريا الجنوبية التي اطلعت عليها في مجال التعليم، مبادرة حوافز المعلمين لدى مدارس المحرومين، وهي تتعلق بالعمليات التشغيلية الخدماتية، ويستهدف المشروع الذي أطلقته وزارة التعليم، حوافز للمعلمين العاملين في مدارس المحرومين، وتتضمن هذه الحوافز راتباً إضافياً وفصولاً أصغر ووقتاً أقلّ للتعليم، ونقاطاً إضافية للحصول على ترقية مستقبلية لمنصب إداري، والفرصة في اختيار المدرسة التالية بعد التعليم في منطقة صعبة، إضافة إلى فرص ترقية أكبر، ويساعد البرنامج في احتمال حصول الطلاب المحرومين في كوريا على تعليم أفضل أكثر منه للطلاب ذوي الامتيازات بفضل المعلمين أصحاب الجودة العالية، وأهم أسباب تحقيق مخرجات تعليم متساوية ومنصفة بكوريا الجنوبية، هو حصول المجموعات المحرومة على حظ وافر من المعلمين أكثر خبرة وتأهيلاً، وأشار التقرير إلى أن 77 في المئة من المعلمين في القرى حاصلون على درجة البكالوريوس مقارنة بـ 32 في المئة في المدن الكبرى، بينما 45 في المئة لديهم 20 عاماً من الخبرة مقارنة بـ 30 في المئة في المدن الكبرى.

ووفق هذا البرنامج فإن الطلاب الكوريين يتفوقون بانتظام على أقرانهم من البلدان المتقدمة الأخرى بدرجات الاختبار، إذ احتلت كوريا المرتبة الأولى بحسب مؤشر بيرسن العالمي لعام 2014 المتعلق بالمهارات المعرفية والتحصيل العلمي، الذي يقارن أداء 39 دولة في المهارات المعرفية والتحصيل العلمي، ويعد وجود معلمين ذوي كفاءة عالية في مدارس المحرومين وليس فقط التركيز على المدارس ذات الأداء المرتفع أحد العوامل المساهمة في الأداء المرتفع للطلاب الكوريين.

من التجارب والبرامج الفعالة لخدمة المجتمع في كوريا الجنوبية التي تستحق نقلها إلى عالمنا العربي، وهو ليس مجالاً تعليمياً، إنما لا يقل أهمية عنه، الرعاية المنزلية المجتمعية لكبار السن، وهذا البرنامج تنفذه وزارة الصحة والرعاية ومنظمة هيلب ايج الكورية، ويتضمن الخدمات والعروض الجديدة، وهذا المشروع يستهدف الرعاية المنزلية المجتمعية لكبار السن، وتعبئة موارد المجتمع لتوفير رعاية منزلية طويلة الأجل لكبار السن، ولأن منظمة «help age» هي التي بادرت بتقديم هذا البرنامج وقامت الحكومة بتمويله، فإن هذا البرنامج يعمل مع المنظمات غير الحكومية والمتطوعين من المجتمع لتوفير الرعاية اللازمة لكبار السن، ويتيح البرنامج للمسنين ممن فقدوا القدرة على رعاية أنفسهم بشكل كامل مواصلة العيش في منازلهم ومجتمعهم سواء بشكل مستقل أم مع عائلاتهم، ويتم توفير الخدمات من متطوعين مدربين يقدمون المرافقة والمساعدة في الأعمال المنزلية والرعاية الشخصية، مثل النظافة والصحة الشخصية، فضلاً عن المرافقة إلى المحال التجارية والذهاب إلى الأطباء والمناسبات الاجتماعية.

نموذج الرعاية الصحية المنزلية ملائم في كوريا الجنوبية لكونها أكثر الدول نمواً من حيث عدد السكان من كبار السن، وتسجل أدنى معدلات للمواليد، وهو أسلوب ناجع الكلفة لرعاية المسنين والذي لولاه لشكل ذلك عبئاً مالياً كبيراً على عاتق الحكومة، وتقول منظمة هيلب ايدج وهي ذراع لمنظمة ايدج العالمية في التطوير والتطويع، إن إتاحة الفرصة لكبار السن للبقاء مدة أطول في منازلهم له فوائد عاطفية، علاوة على أن حقيقة توفير الخدمات من متطوعين محليين تجعل الأمر أكثر راحة لكلا الطرفين، فضلاً عن أنه يقوي أواصر المجتمع.

والآن أترك لكم تقييم مؤسسات التعليم في عالمنا العربي ومخرجاتها والعاملين فيها، وأيضاً دور رعاية كبار السن والمتقاعدين، وأسأل كيف استطاعت هذه البلاد خلال فترة وجيزة أن تصل إلى مستوى متطور ومتقدم في مجال الخدمات الحكومية، والسبب أنها حينما تضع مسؤولاً في أي جهاز خدمي، فهي تريد أن يبتكر ويبدع في موقعه، بعيداً عن المحسوبية أو المصلحة الشخصية، الوطن والمواطنون هما الرقم واحد في منصب أي مسؤول في الدول التي ترغب في أن تصعد سلم المجد.

نقلا عن الحياة