بعد تراجع أسعار النفط في شكل دراماتيكي خلال الأشهر الأخيرة، تتراجع إمكانيات تحقيق فائض في موازنات بلدان الخليج المصدرة للنفط. وبعد 10 سنوات من تحقيق فائض مهم في تلك الموازنات نتيجة ارتفاع أسعار النفط، على رغم الزيادات المذهلة في مخصصات الإنفاق العام في مختلف بلدان المنطقة، لا بد من أن الأمور تبدو مختلفة اليوم. وكانت بلدان المنطقة حولت جزءاً مهماً من الفائض إلى الصناديق السيادية التي وظفت هذه الأموال في أصول مدرة للعائدات.
ربما يعيد انخفاض أسعار النفط تسليط الضوء على مسائل اقتصادية أساسية مثل إعادة هيكلة الاقتصادات الوطنية والبحث عن إيرادات متنوعة للخزينة العامة والعمل على تنويع القاعدة الاقتصادية والارتقاء بإمكانات العمالة الوطنية. فالاعتماد على إيرادات النفط عرقل إمكانات مثل دور القطاع الخاص وتعزيز نشاطات القطاعات غير النفطية ورفع مساهمة العمالة الوطنية في سوق العمل. وارتفعت الأصوات منذ أكثر من 30 سنة من أجل التصحيح والإصلاح لكن استمرار تدفق الإيرادات النفطية وبمعدلات مرتفعة لم يحفز على إنجاز تصحيحات أو إصلاحات مهمة.
قد لا يكون تراجع أسعار النفط مدعاة للقلق بقدر ما هو فرصة للإبداع في صياغة سياسات اقتصادية ملائمة للتنمية المستدامة. لن يتوقف النفط، ولزمن طويل، عن أن يكون مصدراً أساسياً للمداخيل السيادية في بلدان الخليج لكنه يجب أن يعضَد بمصادر دخل أخرى. ويجب الاهتمام بإدارة الأصول المالية والتي وظفت الصناديق السيادية الأموال فيها بما يحقق عائدات جيدة. لذلك لا بد من الارتقاء بإدارة الأخطار الاستثمارية واختيار أفضل الأصول ووضع أسس للتعامل مع أخطار أسعار صرف العملات التي تقوَّم بها تلك الأصول.
وإذ تقدَّر صناديق الثروة لبلدان الخليج بقيمة تتجاوز 2.6 تريليون دولار يمكن احتساب العائد السنوي بحدود خمسة في المئة من تلك القيمة أو 130 بليون دولار. وسيمكن هذا العائد من مواجهة التزامات مهمة في الإنفاق الجاري أو الإنفاق الاستثماري أو الرأسمالي داخل بلدان المنطقة على المشاريع الأساسية. لكن تراجع الأسعار يجب أن يشجع على ترشيد الإنفاق ووقف نمو الإنفاق الجاري قدر الإمكان.
وهناك إمكانيات لضبط إيقاع الإنفاق الجاري إذا روجعت السياسات المالية مثل الدعم والتوظيف ومسؤولية الدولة في النشاط الاقتصادي، خصوصاً في الخدمات والمرافق ويمكن مراجعة فلسفة الدعم التي تشمل مختلف النشاطات، بصرف النظر عن جدواها وأهميتها. كما أن الدعم يشمل مختلف فئات المجتمع سواء كانوا أثرياء أو محدودي الدخل. ولا بد من التركيز على مراجعة دعم الوقود والمحروقات والكهرباء والمياه بما يخفف من الأعباء التي تتحملها الخزائن العامة في بلدان الخليج.
تظل مسألة الإصلاح الاقتصادي ملحة وذات أهمية إذ تضطلع الدولة في بلدان الخليج، وإن بدرجات متباينة، بدور أساسي في الحياة الاقتصادية. ويملك القطاع الخاص إمكانيات مالية يمكن توظيفها في المرافق والخدمات إذا تقرر إنجاز عملية تخصيص وتحول هيكلي في توزيع العمل بين القطاعين العام والخاص. ومع إنجاز مثل هذا التحول لا بد من أن تتراجع الالتزامات على الحكومات الخليجية وتصبح مسألة توفير خدمات المرافق من مسؤوليات القطاع الخاص. وبذلك يتعين على القطاع الخاص توفير الأموال اللازمة لإدارة هذه المنشآت وتوظيف العاملين فيها، وكذلك الأموال اللازمة لتوسيع نطاق أعمالها.
مقابل ذلك ونتيجة لتحقيق العوائد المتوقعة يمكن فرض ضرائب دخل على شركات القطاع الخاص بما يعزز موارد الخزائن العامة في هذه البلدان. ولا شك في أن الحكومات في بلدان الخليج طرحت مسألة التخصيص وعدد من هذه البلدان أنجزت عمليات عديدة في هذا الإطار، لكن المطلوب في هذه المرحلة التاريخية هو التوسع في دور القطاع الخاص وتمكينه من الاضطلاع بمسؤوليات حيوية في برامج التنمية. وثمة مشاريع تتطلب الشراكة بين القطاعين العام والخاص ويفترض أن تحفز الأوضاع الراهنة في سوق النفط تطوير مثل هذه الشركات. ويتطلب الأمر أن تقرن هذه الإصلاحات بتعزيز دور القطاع الخاص في توظيف العمالة الوطنية.
ويستحق ما يتعلق بالعمالة الوطنية في بلدان الخليج الاهتمام وهو يمثل تحدياً مهماً. فبلدان المنطقة ظلت لعقود تعتمد على العمالة الوافدة بعد عزوف المواطنين عن شغل وظائف ومهن عدة نتيجة للبحبوحة المالية. ولم تحفز برامج التعليم المواطنين على الالتحاق بالتعليم المهني ما عطل تدفق العمالة الوطنية لشغل وظائف أساسية في مؤسسات وشركات القطاع الخاص. وهكذا نجد أن عمالة القطاع الخاص هي عمالة وافدة وبنسب عالية في حين يعمل المواطنون في وظائف القطاع العام، وتشكل نسبة مهمة من هذه العمالة بطالة مقنعة.
هناك ما يقارب من 15 مليون من العمالة الوافدة في بلدان الخليج يشكلون أهمية للاقتصادات وهم يعدون جزءاً من المجتمع الاستهلاكي لكنهم يحولون أموالاً مهمة إلى بلدانهم الأصلية وتقدر تلك الأموال بـ 24 بليون دولار سنوياً. إذاً فإن دول الخليج باعتمادها على العمالة الوافدة تتكلف مالياً من خلال توفير الخدمات والرعاية لهؤلاء الوافدين بالإضافة إلى الأموال المصدرة إلى الخارج عن طريق تحويلات العاملين. لكن أهم من ذلك أن بلدان الخليج تخسر في التنمية البشرية عندما لا ترتقي بمشاركات العمالة الوطنية في مختلف الأعمال والنشاطات.
إن أزمة تراجع أسعار النفط يجب أن تستثمر من أجل بناء اقتصادات قوية وذات قاعدة متنوعة ويجب العمل على تطوير التنمية البشرية وبرامج التعليم بما يمكن من تطويع الاقتصادات بما تتطلبه برامج الإصلاح الاقتصادي. هذه تحديات مهمة أمام دول الخليج لكنها تحديات مقدور على مواجهتها إذا توافر القرار لدى حكومات تلك الدول.
نقلا عن الحياة