حمَّل البعض اكتتاب أسهم البنك الأهلي ما لا يحتمل وكأنه أول تجربة بنكية في السعودية. وحتى بعد ظهور النتيجة العادية، اعتبرها البعض هزيمة لتيار وانتصار لآخر، مقابل آخرين رأوا العكس. كل فريق استخدم أرقاماً منتقاة تخدم أفكاره المسبقة.
روج البعض لما اعتبروه فشلاً شعبياً ذريعاً للاكتتاب من خلال قياس عدد المكتتبين كنسبة من عدد السكان، أي تقريباً 6 %. هذا لا يمكن أن يكون مقياساً، لأن هناك نسبة كبيرة غير معلومة لا تستطيع مالياً الاكتتاب، أو أصلاً لا تستثمر في الأسهم.
بالمقابل، روج البعض لنجاح شعبي عبر قياسات أخرى مثل نسبة التغطية الهائلة (أكثر من 23 ضعفاً) لأكبر مساهمة بالعالم.
هذا أيضاً ليس مؤشراً لأنه يمكن لعدد قليل من أصحاب رؤوس الأموال الضخمة أن يغطوها. هناك مؤشر أساسي وبسيط، هو مقارنة عدد المكتتبين مع العدد الذي يكتتب عادة.
أي مقارنة عدد المكتتبين بالبنك الأهلي مع عدد المكتتبين بالشركات الأخرى السابقة. حسب التقرير السنوي لأداء السوق المالية السعودية والتقرير السنوي لمؤسسة النقد للشركات التي تم طرحها بعلاوة إصدار في سوق الأسهم السعودية خلال الفترة من عام 2006 إلى 2010، وهي 31 شركة، نجد أن عدد المكتتبين تراوح من نحو 200 ألف مكتتب كأقل رقم (شركة اتحاد مصانع الأسلاك) إلى نحو سبعة ملايين مكتتب كأعلى رقم (شركة التعدين)، فيما تراوحت الغالبية العظمى (26 من 31 شركة) بين مليون ومليونين ونصف مكتتب.
وكان المعدل العام لعدد المكتتبين هو 2.32 مليون مكتتب. هناك أيضاً عامل مهم وهو حالة السوق (في صعود أم هبوط).
فأثناء اكتتاب البنك الأهلي كان سوق الأسهم في انخفاض نسبي، هذا له تأثير نفسي في تجنب الاكتتاب.
ثمة عوامل أخرى لها تأثير ثانوي، إذا أغفلنا العامل الإعلامي الذي سيتم تناوله، مثل: توفر السيولة المالية، وجود التسهيلات وعلاوة الإصدار، سعر السهم، حجم الأسهم المطروحة.
الحاصل من كل ذلك أن عدد المكتتبين لأسهم البنك الأهلي لم يكن بدعة كما يحلو للبعض الترويج، بل عادي؛ فعددهم بلغ 1.26 مليون مكتتب، وبالمقارنة نجد نحو 40 % من اكتتاب الشركات حازت على أقل أو مقارب لهذا العدد، يقابلها 60 % فوقه.. أي أن العدد ضمن المدى المعتاد لغالبية الشركات.
قد يقال إن العدد أقل من المعدل العام للشركات بنحو 45 % وهذه ليست قليلة لكنها ليست حادة إذا أخذنا بالاعتبار أن سوق الأسهم كان في هبوط أثناء الاكتتاب مما يخفض عدد المكتتبين. بعبارة أخرى فإن العدد لم يكن ضئيلاً كما أنه لم يكن ضخماً. ومن ثم لا يمكن الادعاء بمقولات كبيرة لا تتحملها هذه النتيجة العادية.
إذن، ما قصة هذا الرواج الإعلامي والحملات الدعائية الضخمة المضادة للاكتتاب، ولماذا لم يكن لها تأثير واضح؟
الإجابة صعبة، لكن هناك من حاول دراسة تأثير الحملات بشكل عام. في منتصف الحرب العالمية الثانية قامت الحكومة الأمريكية بحملة دعائية كبرى للتأثير على موقف جنودها للمشاركة بالحرب، ثم أجرت دراسة لمعرفة تأثيرها. النتيجة كانت مخيبة، إذ لم تؤثر على نفسيات الجنود.
بعدها بتسعة أسابيع أعيدت الدراسة، فكانت النتيجة مفاجئة إذ ظهر تأثير كبير! تلك النتيجة حيرت علماء الاجتماع النفسي، فالمنطق البديهي هو أن التأثير يأتي مباشرة قوياً بعد الحملة ثم يخف تدريجياً، مثلما يحصل بحملات التوعية الصحية والاجتماعية، فكيف حدث العكس؟
للإجابة عن ذلك قام السيكولوجي كارل هوفلاند (1951م) بدراسة ممولة من وزارة الدفاع الأمريكية، وانتهى بطرح فرضية «التأثير النائم».
الفرضية تقول إن التأثير يأتي متأخراً، ففي البداية لا يتأثر المتلقي بالدعاية السياسية لأن المصادر غير موثوقة والمعلومات بلا مصداقية (بروبوجاندا)، بعد فترة ينسى المتلقي المصادر ومصداقيتها وتبقى الرسالة في ذهنه؛ فالعقل البشري ينسى سريعاً مصدر المعلومات ومصداقيتها بينما تبقى الرسالة في الذاكرة.. يتلاشى بذاكرتنا مصدر الرسالة أسرع من الرسالة.
الدراسات الأمريكية بعد ذلك انتبهت لظاهرة «التأثير النائم» في كثير من الحملات خاصة السياسية خلال الانتخابات المهمة، على الناخبين المترددين، فرغم أن بعض الحملات بلا مصداقية واتهامات سخيفة ضد المنافسين وغير مقنعة في البداية، فإن كثيراً من الناخبين المترددين يقتنع لاحقاً بالتصويت ضد المرشح المنتقد في الدعاية، مما يذكرنا بالمقولة المشهورة لجوزيف غوبيلز وزير الإعلام النازي: «اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الآخرون».
ورغم أن فرضية «التأثير النائم» لا تبدو مقنعة للبديهة، وحيرت علماء الاجتماع النفسي حتى الوقت الراهن ولم تستطع الدراسات العلمية إثباتها، وبعضها اعتبرتها فرضية باطلة، فإن تأثيرها الإقناعي على موقف المتلقي جعل أغلب الإعلانات التجارية يستخدمها، فلا تركز على جودة البضاعة (الإقناع العقلي المباشر الذي يُنسى) قدر ما تركز على ما يبقى بذاكرة المتلقي وإن كان لا علاقة لها بموضوع الإعلان، عبر: لقطة قصصية مؤثرة، صدمة شكلية، جمال باهر، منظر جنسي.. (الإقناع الذي يبقى في الذاكرة) ومن هنا يقول إيرك هوفر: «البروبوجاندا لا تخدع الناس: إنها فقط تجعلهم يخدعون أنفسهم».
نعود للتناول الإعلامي لاكتتاب البنك الأهلي.. ويمكن تقسيمه لنوعين. الأول تناولها بطريقة اعتيادية كما كافة الاكتتابات الأخرى: فقهاء واقتصاديون وكُتاب أدلوا بدلوهم كلٌّ باجتهاده، لكن الثاني كان حملة دعائية ضخمة ظهرت بالإنترنت لا سيما تويتر، وكأن البنك الأهلي هو أول تجربة بنكية في السعودية.
هذه الحملة يقول البعض إن وراءها «هوامير» السوق لغرض زيادة فرصتهم عبر تقليص عدد المكتتبين، بينما الظاهر منها أنها حملة تعبوية إيديولوجية يمكن إدراجها مع حالة الاستقطاب المحتقنة في الإعلام الإلكتروني، مستخدمة «التأثير النائم» وإن كان أصحابها لا يعرفون هذه الفرضية، فذلك سلوك معروف قبل هوفلاند، لكن هذا التأثير لم ينجح مفعوله في اكتتاب البنك الأهلي، إذ يبدو أنه لم يأخذ وقته الكافي.
الدعاية قد تقول الحقيقة لكنها ليست وسيلتها للإقناع، لذا يقول جورج أورول: «كل البروبوجندات كاذبة حتى عندما تقول أحدها الحقيقة».
كاذباً كان أم صادقا، التأثير النائم لا بد أن يستيقظ في نهاية المطاف، لكن أحياناً «بعد خراب مالطا!» أما اكتتاب البنك الأهلي فقد خرج سليماً منه.
نقلا عن الجزيرة
ابق على اطلاع بآخر المستجدات.. تابعنا على تويتر
تابِع
السؤال هل الرياض وسامبا والعربي والبريطاني ووو مقفلة ابوبها ولا احد يتعامل معها؟ الواقع يقول لا اذاً الحملة على البنك الأهلي لم تأثر على اكتتاب البنك ولكن السؤال المهم الى متى والمواطنين ضحية لخلافات مذهبية وشخصية بين مطاوعة البلد تحرمهم من استثمار امواله مع العلم انها اجتهادات بشر.
المسألة لاتحتاج الى فلسفة فهناك اقليةنافذة تريد فرض الربا واغلبية مغلوبة على امرها ترفضه والله لايعير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم
تقرير وتحليل ممتاز واصل يا دكتور
الاكتتاب فاشل شعبيا ليش كل هالفلسفة لتغطية الفشل الشعبي.
المتدينون يتمسكون بأي قشة لإرضاء ضمائرهم!