بداية وحتى لا يختلط الأمر على البعض فإنه من المهم التفرقة بين مفهومين للبورصة وهما:
السوق الأولية: هي سوق الإصدار الذي تطرح فيها الشركات أسهمها للاكتتاب العام لأول مرة أو لزيادة رأس المال، وسوق الإصدار أو الاكتتاب تقوم به بنوك الاستثمار أو البنوك التجارية أو المنشأة ذاتها بطريقة مباشرة مع المستثمرين. فالسوق الأولية هي التي توفر التمويل المطلوب لإضافة مشروعات جديدة تسهم في زيادة إنتاج السلع والخدمات وتخلق فرص عمل جديدة.
السوق الثانوية: هي سوق التداول المشهورة لدى العموم بالبورصة، وتتداول فيها الأسهم بعد إصدارها وانتهاء الاكتتاب فيها. وهذه السوق تنتقل فيها الأموال بين أيدي البائعين والمشترين بعيداً عن دائرة العمل والإنتاج.
هذه التفرقة ضرورية لأنها تشير بوضوح إلى أن البورصة " السوق الثانوية " لا تقوم بأي دور في جذب المدخرات المحلية لتمويل المشروعات الاقتصادية التنموية، كما أنها لا تساهم بأي شكل في جذب رؤوس الأموال الخارجية للاستثمار في الداخل.
التعريف الاصطلاحي للبورصة
تعرف البورصة بأنها سوق مالية منظمة بموجب قوانين ولوائح وقواعد لعقد الصفقات، يتداول فيها البائعين والمشترين الأسهم والسندات، وتتحدد فيها الأسعار وفقاً للعرض والطلب، والبورصة " السوق الثانوية " تنقسم إلى سوق عاجلة وأخرى آجلة.
الفروق الأساسية بين الأسواق العاجلة والآجلة
1- الغرض من العقد في الأسواق العاجلة الفورية استلام السلعة وتسليم الثمن بخلاف الأسواق الآجلة فالمقصود منها المخاطرة والمراهنة على تقلب الأسعار.
2- في السوق الفورية يمكن أن يكسب البائع والمشتري عند ارتفاع سعر السلعة أما في السوق الآجلة فلا يتحقق الربح فيها إلا طرف واحد كما في القمار.
3- العمليات الخيارية لا تتواجد إلا في الأسواق الآجلة [1] .
الوظيفة الاقتصادية للبورصة
من التعريف الاصطلاحي للبورصة يتبين أن وظيفتها الاقتصادية تنحصر في إيجاد سوق مستمرة لتداول الأسهم، تمكن مالك الأسهم من تسييلها أو جزء منها في أي وقت شاء بسرعة وسهولة، وبأفضل سعـر موجود، وبأدنى تكلفة ممكنة. وتقوم بتسجيل عروض البيع وطلبات الشراء وحركة الأسعار لجميع الصفقات، وتعلنها في نشرة أسعار رسمية.
في ضوء التعريف الاصطلاحي للبورصة ووظيفتها الاقتصادية تتضح حقيقة أن البورصة هي المكان المخصص لنقل ملكية الأسهم بطريقة سهلة وسريعة، وهي سجل منظم للأسعار التي تم بها التداول بصرف النظر عن الأسعار الحقيقية العادلة.
البيوع العاجلة في البورصة
هي عمليات البيع والشراء التي يتم تنفيذها على الفور حيث يتم تسليم الأسهم لمشتريها ويأخذ البائع الثمن. ويعمد المتعاملون في الأسهم إلى التعامل العاجل لأحد السببين التاليين أو كلاهما:
1- الاحتفاظ بالأسهم للاستفادة من توزيعات أرباحها المتكررة الناتجة عن النشاط الفعلي للشركات المصدرة لتلك الأسهم وهذا هو أصل النية في المشاركة.
2- بيع الأسهم وتحقيق ربح من ارتفاع أسعارها في البورصة [2] .
المقصد الشرعي في المعاملات المالية
المقصد الشرعي الأساسي في المعاملات المالية هو المحافظة على المال، وتكون بمنع الاعتداء عليه بالسرقة والغصب، وتنظيم التعامل به بين الناس على أساس من العدل والرضا، والعمل على تنميته ووضعه في الأيدي التي تصونه وتحفظه، وتقوم على رعايته، وتستخدمه في الإنتاج، وتنمية الموارد العامة، والمنع من أن يؤكل بين الناس بالباطل. ويدخل في المحافظة على المال اتباع كل ما شرع من بيوع للتعامل بين الناس، وغيرها من العقود التي يكون موضوعها المال، بما في ذلك تحريم الغرر والخداع والنصب [3] .
معنى البيع
البيع في اللغة يعني مطلق المبادلة، ولفظ البيع والشراء يطلق كل منهما على الآخر فهما من الألفاظ المشتركة بين المعاني المتضادة. ويراد بالبيع شرعاً مبادلة مال بمال [4] على سبيل التراضي أو نقل ملك [5] بعوض [6] على الوجه المأذون [7] فيه [8] .
الموقف الفقهي من البيوع العاجلة الفورية
يرى جمهور الباحثين والفقهاء المعاصرين [9] جواز تملك أسهم الشركات سواء كان ذلك بالاكتتاب فيها في سوق الإصدار، أو بشرائها من بائعيها في العمليات العاجلة في البورصة. لكنهـم اشترطوا لكي تكون البيوع العـاجلة التي تتم في البـورصة صحيحة عدة شروط هي:
1- أن تكون أسهم عادية لأن باقي أنواع الأسهم لا يجوز إصدارها شرعاً.
2- أن تكون أسهم شركات لا تتعامل بالربا أخذاً أو عطاءً، أو في المحرمات بيعاً أو شراءً [10] .
3- أن تكون الشركة مصدرة الأسهم قد مارست نشاطها وغلب على موجوداتها الآلات والأدوات والمنتوجات ولو كان معها أموال نقدية أو ديون لأن الحكم للغالب.
أ- أما إذا كانت موجودات الشركة يغلب عليها الأموال النقدية، أو كان بيع الأسهم قد تم بعد قيام الشركة وقبل ممارسة نشاطها فإن البيع يعتبر مبادلة نقد بنقد وتطبق عليه قواعد الصرف من حيث التماثل والتقابض في المجلس بين الجنس الواحد وإلا اعتبرت الزيادة من ربا الفضل.
ب ـ وإذا أصبح غالب مال الشركة من الديون تطبق على الأسهم أحكام التعامل بالديون وحينئذ لا يجوز بيع الأسهم بثمن مؤجل حيث روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع الكالئ بالكالئ " أي الدين بالدين [11] .
وهنا تجدر الإشارة إلى أن رأي جمهور الفقهاء المعاصرين بجواز شراء أسهم الشركات في العمليات العاجلة في البورصة مرتبط بتملك الأسهم والاحتفاظ بها للاستفادة من توزيعات أرباحها المتكررة الناتجة عن النشاط الفعلي للشركات المصدرة لتلك الأسهم. وهو ما يتوافق مع أن أصل المساهمة في رؤوس أموال الشركات نهائية وذات أجل طويل، وأن الأسهم هي الوثيقة التي تثبت ملكية كل شريك في موجودات الشركة على المشاع، وهي التي يتحدد على أساسها نصيب كل شريك من الربح، وهو ما يتوافق أيضاً مع المقاصد الشرعية للمعاملات المالية.
كما تجدر الإشارة إلى أن جواز بيع أسهم الشركات في العمليات العاجلة في البورصة لحصول البائعين على السيولة اللازمة لمواجهة متطلباتهم الحياتية، أو للرغبة في تغيير مجال الاستثمار، يعتبر استثناءً من الأصل الذي يجعل المساهمة في رؤوس أموال الشركات نهائية وذات أجل طويل.
رأي الفقه في البيوع اللحظية التي تهدف إلى الربح من تقلبات الأسعار
هناك تساؤل يطرح نفسه وهو هل الحكم الفقهي بجواز تملك أسهم الشركات والاحتفاظ بها للحصول على أرباحها المتكررة الناتجة عن نشاطها الفعلى الذي أسست من أجل القيام به يشمل شراء وبيع الأسهم بهدف تحقيق أرباح ناتجة عن تذبذبات الأسعار اللحظية في البورصة؟ وهل يصح أن يكون بيع الأسهم وهو استثناء من أصل الاحتفاظ بها نظاماً استثمارياً أصيلاً؟ وهل يتوافق ذلك مع المقاصد الشرعية للمعاملات المالية؟.
والحقيقة أنه على الرغم من أن الحكم الفقهي يقضي بصحة وجواز تملك أسهم الشركات بشرائها في العمليات العاجلة في البورصة، وكذلك بيعها في أي وقت للحصول على السيولة، إلا أن هذا الحكم لا ينطبق على العمليات العاجلة اللحظية التي تهدف إلى تحقيق ربح من التنبؤ بتقلبات أسعار الأسهم في المدى القصير للأسباب التالية:
1- افتقادها للعدالة لأن ارتفاع أسعار معظم الأسهم غير حقيقي ويدل علي ذلك أن أسهم بعض الشركات ترتفع رغم إعلانها الخسارة ووجود انطباع سيىء عن أدائها عند المساهمين.
2- تشتمل علي الجهالة والغش لأن المساهمين في غالبيتهم لا يعرفون شيئاً كثيراً عن الشركات التي ساهموا فيها، بل إن بعضهم لا يعرف اسم الشركه علي الوجه الصحيح، ولا النشاط الذي تزاوله، ويتحكم في ارتفاع أسعار الأسهم وهبوطها الإشاعات وتحركات كبار المساهمين [12] .
3- تتضمن معاني المغامرة والمراهنة والمقامرة، لأن ارتفاع الأسعار وهبوطها يتم بين لحظة وأخرى دون الاعتماد على أي معلومات محاسبية من ميزانيات تلك الشركات أو نتائج أعمالها، والمتعامل قد يبيع ما اشتراه ويشتري ما باعه عدة مرات في اليوم الواحد [13] .
4- تهدر قيمة عقود الشركات كأحد وسائل المعاملات المالية الشرعية، لأنه عندما تتحول نية المكتتبين أو المشترين للأسهم من المساهمة في شركة إلى عملية مراهنة على أسعار أسهم تلك الشركة، تنعدم القيمة التي تمثلها عقود الشركات من حياة الناس.
5- مخالفتها للمقاصد الشرعية للمعاملات المالية، من ضرورة أن يكون التعامل بين الناس على أساس العدل، ومنع أكل أموال الناس بالباطل، وجلب المصالح ودفع المضار، ولا يخفى ما يصيب المتعاملين بهذه الطريقة من مضار تتمثل في الخسائر التي يتكبدونها.
6- تعارضها مع المنهج الاقتصادي الإسلامي الذي يعظم قيمة العمل، ويجعل المساهمة في ملكية الشركات المنتجة في مختلف القطاعات أبدية أو ذات آجال طويلة، بما يمكن من تحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة [14].
وهناك أقوال لاقتصاديين غربيين، وآراء لعلماء استثمار ومختصين في شئون البورصات، وقوانين حاكمة للمبادلات في بعض الدول تؤيد صحة هذا الرأي، وتؤكد على أن العمليات التي تهدف إلى تحقيق ربح من التنبؤ بتقلبات الأسعار اللحظية للأسهم في البورصة من قبيل القمار.
• دافيد كورتين صاحب كتاب العولمة والمجتمع المدني يقول إن أكثر من تريليون دولار ( ألف مليار دولار ) تتداولها الأيدي إلتماساً لعوائد مالية قصيرة الأجل لا علاقة لها بالإنتاج أو التجارة في أي سلع أو خدمات فعلية، ويضيف أصبح النظام المالي العالمي نادياً عملاقاً للقمار تعتمد الفوائد فيه على استخلاص الثروة من بين أيدي الآخرين.
• علماء الاستثمار يرون أن كل من يكرس كل وقته في المتاجرة بالأسهم لتحقيق هامش ربح عند الشراء والبيع يعتبر من كبار المقامرين [15] .
• مختصون في شئون البورصات يعتبرون أن المقامرون هم المضاربون ( المقصود المضاربة بمفهومها الغربي ) [16] في الأسهم ذات الأجل القصير جداً، والذي يصل في بعض الأحيان إلى المتاجرة في الأسهم في اليوم نفسه بيعاً وشراءً [17] .
• القوانين الحاكمة للمبادلات في هونج كونج تقضي صراحة بأن عمليات المضاربة ( المقصود المضاربة بمفهومها الغربي ) على فروق الأسعار تعد من القمار، وتعد عمليات غير قانونية وغير مشروعة، والقانون الأسترالي يخضع عقد الخيار على الأسهم الذي يتطلب تسوية نقدية لقانون الدولة للقمار والرهان [18] .
الخلاصة أن شراء أسهم الشركات المساهمة في العمليات العاجلة في البورصة بغرض تملكها للحصول على حصتها من الأرباح المتكررة الناتجة عن النشاط الفعلى لتلك الشركات، وكذلك بيع الأسهم في أي وقت للحصول على السيولة صحيح وجائز اتفاقاً ونافذ شرعاً، ولكن هذا الحكم لا ينطبق على عمليات الشراء والبيع اللحظي للأسهم بهدف تحقيق ربح من تذبذبات أسعارها لأن هذا من قبيل القمار والرهان. هذا والله أعلم.