معروف أن العالم حاليا يمر بموجات تضخم وأزمات مصرفية. ومن طبيعة علم الاقتصاد دراسة وفهم وتفسير الأزمات الاقتصادية، والسلوك الاقتصادي بصفة أعم. ومنهج علم الاقتصاد في الفهم والدراسة والمطبق في جامعات العالم قائم على استخدام العقل من خلال فهم السببية والتعليل في الفهم والتفسير، وتبعا استخدام ما يسمى المنهج الساينسي scientific method.
هل هذا يتعارض مع تفسيرات مستندة إلى النقل من الكتاب والسنة؟ لا. السببية والغيب لا يتعارضان. ومن أدعى ذلك فالمشكلة في فهمه. أقول ذلك لأن البعض تحدث وكتب بما يفهم منه أن علم الاقتصاد "الذي يسميه بعضهم الاقتصاد الوضعي"، غير مقبول إسلاميا، لأنه ينكر أو لا يستند إلى اعتبارات غير السببية والغيب في تفسير أحداث الاقتصاد. ونسمع ونقرأ لبعض الناس عبارة "في شريعتنا الإسلامية حل كل مشكلاتنا الاقتصادية".
ما قالوه من المجمل الذي يحتاج إلى توضيح وبيان بالمقصود، ومن يقولها بإطلاق فهو يحكم على أشياء لا يحسن فهمها وتصورها.
جاء في الحديث النبوي أن لصلة الرحم تأثيرا حسنا على الرزق والعمر. في صحيح البخاري كتاب البيوع، باب من أحب البسط في الرزق عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال، سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول، من سره أن يبسط له في رزقه، أو ينسأ له في أثره، فليصل رحمه.
كلمة "ينسأ" بضم الياء أي يؤخر، وكلمة "في أثره" أي في أجله، وسمي الأجل أثرا لأنه يتبع العمر.
هذا التأثير الإيجابي في الرزق والعمر لا مجال لأن ندركه بالرجوع إلى عقولنا فقط. لكن هذا لا ينافي أيضا فعل أسباب مادية مؤثرة مؤدية بتوفيق الله إلى بسط الرزق وإطالة العمر.
على سبيل المثال، طالب الطب أو أي تخصص صحي آخر لا يدرس في كليته أن لصلة الرحم تأثيرا على العمر. لكن عدم الدراسة لا تعني نفي ما دلت عليه النصوص الصحيحة. ولا تعني في الوقت نفسه أن ما يدرسونه غير مقبول إسلاميا.
في موقع الإمام ابن باز -رحمه الله- جواب على سؤال عن خطأ الرسول صلى الله عليه وسلم، "... فقد أجمع المسلمون قاطبة على أن الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ولا سيما خاتمهم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ معصومون من الخطأ لما يبلغونه عن الله ـ عز وجل ـ من الأحكام... أما في أمور الدنيا فقد يقع الخطأ ثم ينبه على ذلك...".
ولذا فإنه ليس من الصواب القول إن علم الاقتصاد الذي يدرس في جامعات العالم غير مقبول إسلاميا بالنظر إلى أنه علم مؤسس على أن مصدر المعرفة للمؤثرات في الاقتصادات هو الكون. فقد تفهم تخطئة المعرفة التي مصدرها الكون، وهذا غير صحيح، ولو كان صحيحا لحق لنا أن نعمم القاعدة، ونعد كل العلوم من علم نفس وكيمياء وفيزياء وعلوم طب وصيدلة وهندسة وزراعة وحاسب وإدارة أعمال ومحاسبة ونظم معلومات وغيرها، نعدها كلها غير مقبولة إسلاميا، لأنها أسست على مصدر يعطي نتائج خاطئة. لكن لو قيل بأنه لا يكفي، ولا يصح الركون فقط إلى الكون وحده لكان أوضح وأصوب. ذلك لأن ما تتوصل إليه العلوم الطبيعية أو الاجتماعية ـ التي شهد لها الحس أو العقل أو قام عليها دليل راجح هي مما يعد ـ بميزان الشرع ـ علما يعمل به. والإيمان بما تتوصل إليه هذه العلوم أمر مشترك بين البشر، بغض النظر عن الديانة. لكنها في الوقت نفسه ليست المصدر الوحيد للعلم.
إذا كان المنهج الساينسي يقوم على الافتراضات السابقة، فإنه يجب التسليم أيضا بأن الله على كل شيء قدير، وأن هناك مؤثرات وأسباب تدرك بالوحي. لكن يجب التنبه إلى أن الإيمان بالغيب لا يعني إنكار أن الوقائع الطبيعية والنفسية والاجتماعية لها أسباب في داخل هذا الكون. فمثلا انتصر المسلمون في بدر لعوامل كونية "تخضع لدراسة الساينس" كاختيار مكان نزول الجيش، ولعوامل غير كونية أي غيبية كالدعاء.
وقد وردت نصوص كثيرة تدل على الأخذ بالأسباب، قال الله تعالى، "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل". وقال "وليأخذوا أسلحتهم ... وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم". وقال، "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى". والأخذ بالأسباب هو هدي سيد المتوكلين على الله، صلوات الله وسلامه عليه.
وهنا أشير إلى حديث اشتهر على ألسنة الناس، وهو ما رواه أنس بن مالك ـ رضى الله عنه ـ قال، قال رجل، يا رسول الله أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال صلى الله عليه وسلم، "أعقلها وتوكل" رواه الترمذي وحسنه الألباني. ومعنى الحديث واضح وصحيح، فمن علم أحدا كيف يعقلها، فقد علمه شيئا صحيحا مفيدا، ومن ثم فهو مقبول إسلاميا، لكنه لم يعلمه كل المطلوب، إذ هناك الجزء الغيبي القدري، وقد قرر علماء الإسلام رحمهم الله تعالى أنه لا تعارض بين السببية والقدر، وألا تعارض بين العقل والنقل.
يمكن لمن يرغب الاستزادة الاطلاع على ما كتبه هؤلاء الأئمة في هذا المجال في أبواب القضاء والقدر أو الإيمان أو التوحيد أو العقيدة. وللإمام ابن تيمية رحمه الله كتاب عنوانه "درء تعارض العقل والنقل".
وهناك نقطة مهمة. قضى الشرع بأن الحقـائـق ـ دينية كانت أم دنيوية ـ إنما يكتسبها الإنسان بما أعطاه الله من حس وعقل. ومن ذلك قوله سبحانه، "والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون" النحل، 78.
والمحصلة أنه لا تعارض بين العقل والنقل. وهذا ما تيسر توضيحه، والموضوع طويل، وبالله التوفيق.