قد يكون هناك عوامل مشتركة في هوية بعض الدول التجاريَّة والاقتصاديَّة، إلا أن هناك هوية خاصة تميز كل دولة من الدول المتقدِّمة عن بعضها، وبناء الهوية للدول ضرورة للحصول على الميزة التنافسية بين الدول المتقدمة. الهوية تعد أساسًا للتخطيط وحماية من التقليد، فلن تستطيع أيّ دولة منافسة تكنولوجيا الولايات المتحدة بسهولة، ولا جودة اليابان ولا متانة أوروبا ولا منافسة الأسعار الصينية.
فالصين تعتمد على التصنيع بكميات ضخمة «mass production» وهذا ما يخفض قيمة أسعار الإنتاج خصوصًا أن غالبية السكان من القرى الصغيرة ويعملون برواتب متدنية جدًا; لا شكَّ أن هذه الميزة أُوجِدت للصين بطبيعتها ولم يكن بالضرورة رفع المستوى التَّعليمي لغالبية العمالة المنتجة، حتَّى إن أفضل وصف لتلك العمالة أنها «آلات»، ولكن ما زادها قوة وميزة تنافسية أن الصين تستثمر في الأموال والتكنولوجيا والبحوث والتطوير لكي تساند هويتها، فبناء الهوية أو تبنيها ليس ميزة تنافسية دون دعم ومساندة.
أما بالنسبة لليابان فتجد أنها تستثمر في البحوث والتطوير والتكنولوجيا وتعمَّد إلى إنتاج سلع وبضائع وخدمات مطورة بعمالة متعلمة ومتدربة ومتقدِّمة في التَّعليم والتدريب، وهذا ما يميز هوية اليابان بـ(الجودة والتكنولوجيا).
وتخدم هوية اليابان أنَّه يصعب تقليدها بنفس الكفاءة والجودة; وحتى مع مضي الوقت، تكون اليابان انتقلت إلى مراحل أخرى (أكثر تطورًا) مما يزيد من قوتها التنافسية.
أما ما يميز الهوية الكورية (كوريا الجنوبية) أنها تعمل على بناء التَّعليم لكل المواطنين، وتقديم خدمات وصناعات متوسطة وفي نفس الوقت تبني مستقبلها بوتيرة متسارعة، فكوريا كانت تستثمر في البحوث والتطوير 1.5 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي عام 1991، وهذا يمثِّل أقل من نصف الدول المتقدِّمة مثل الولايات المتحدة واليابان والدول الأوروبيَّة، ولكن مع مرور الوقت، نجد كوريا الجنوبيَّة اليوم تفوق جميع دول العالم باستثماراتها في البحوث والتطوير حيث وصلت إلى 4.5 في المئة استثمارات من ناتجها المحلي الإجمالي وهذا ضعف ما تستثمره الولايات المتحدة وتقريبًا 50 في المئة أكثر من استثمارات اليابان والدول الأوروبيَّة.
وأيْضًا ما يميز كوريا الجنوبيَّة أنها تقدم أفضل مستويات للتعليم لأبنائها وبناتها، فتجدهم من أوائل الدول في معايير ومؤشرات التَّعليم مثل TIMSS وهو معيار لتعليم البلد في الرياضيات والعلوم.
لا يخفى على الجميع التطوّر الكوري، وأصبحت سلعهم تنافس الدول العظمى، وشهدنا أخيرًا إسناد مهمة تطوير الجيل الخامس (G5) للهواتف- الجوال حيث أسندت الدول الأوروبيَّة هذه المهمة إلى كوريا الجنوبيَّة التي يوجد بها أفضل معامل البحوث والتطوير في العالم.
الهوية الأوروبيَّة تتمثل في ألمانيا وبريطانيا في المقدمة ومعها الدول الأخرى مثل فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، فهوية الدول الأوروبيَّة تتمثل في الخدمات المتقدِّمة والصناعات المتينة، فتجد صناعة الطائرات والطائرات الحربية والسيَّارات المتقدِّمة جدًا مثل المرسيدس بنز وBMW ولامبرغيني ورولز رايس، وأيْضًا الإلكترونيات المتقدِّمة جدًا مثل ساب وسيمنز.
وما يميز هوية الدول الأوروبيَّة أنها تنوع في الصناعات والخدمات مع أنها دول كثيرة وتستطيع تقسيم المهام بينها.
الهوية الأوروبيَّة تعطيها ميزة تنافسية قوية، مسنودة بتقدم تعليمي وعلمي وطبي، ويمكن قراءة الهوية الأوروبيَّة داخل أوروبا وخارجها، فهي تقدم الخدمات والصناعات المميزة مثلاً في السعوديَّة، فلا يوجد من يستطيع منافستها في السيَّارات الفارهة، وهي في تنافس مع الولايات المتحدة في الصناعات الحربية المتقدمة.
أما الهوية الأمريكية مُتعدِّدة الأطراف حيث تتمثل في التكنولوجيا والصناعات العسكرية والأسواق الماليَّة والخدمات الطّبية والتعليميَّة، والهوية الأوروبيَّة تتمثل في الصناعات المتينة عالية الدقة والسياحة.
الولايات المتحدة تتميز عن بقية الدَّول أنها بيئة حاضنة للتطوير، فأكبر الشركات في التكنولوجيا (مايكروسوفت، إنتل، سيسكو، IBM، أوريكل، وغيرها) أسست وتطورت في الولايات المتحدة; وأيْضًا تتميز الولايات المتحدة أنها تستثمر 465 مليار دولار أو 29 في المئة من استثمارات العالم في البحوث والتطوير البالغة 1.6 تريليون دولار، وهناك دور حكومي فيدرالي ضمن هذه الاستثمارات من عدَّة قنوات خصوصًا وزارة الدفاع الأمريكية و»ناسا»، إضافة إلى وزارة الطاقة.
أكبر ميزة تميز هوية الولايات المتحدة أنها تسيدت العالم في التقدم والأنظمة والأسواق، وهذا ما يميزها ويصعب اللحاق بها.
ولا يخفى على الجميع دور الهوية الأمريكية في أسواق المال والذهب وتصدير واحتضان «نقل المعلومة» التعليميَّة والطّبية.
هناك دول تطورت أخيرًا مثل أستراليا وماليزيا وسنغافورة والهند وتركيا وفيتنام والمكسيك، ولم تتضح هوية مُعيَّنة لهذه الدول، وستبقى دول مجتهدة وفي تقدم تنموي واقتصادي ولكن لن تستطيع التَّميز والمنافسة للدول المتقدِّمة على المدى المنظور.
هذه الدول تقدم مستويات رائعة في التقدم ولكن تحتاج إلى استثمارات طويلة المدى في البحوث والتطوير، وفي الخدمات والصناعات التعليميَّة والطّبية.
نقلا عن الجزيرة