يُعد السوق المالي والقطاع العقاري أكبر قناتين للاستثمار بالاقتصاد المحلي من حيث حجم الأموال التي تُدار بهما، ودائماً ما كانا معاكسين لبعضهما بالاتجاه، حيث لم يسبق أن شهد أيٌ منهما ارتفاعات متوازية باعتبار أن السيولة تنتقل بينهما بالتناوب، إلا أن غالباً ما تظهر مؤشرات عديدة تسبق اتجاه السيولة أو خروجها من إحدى هاتين القناتين الاستثماريتين.
فبالعودة لدورة سوق الأسهم السابقة، والتي بدأت معالمها تتضح في العام 2002، كان هناك أسباب عديدة وجهت السيولة لسوق الأسهم، وكان من بينها عودة أموال ضخمة من الخارج بعد أحداث سبتمبر بأمريكا.. إلا أن القرارات الحكومية في وقتها أعطت مؤشرات داعمة للاستثمار بالأسهم، فقد أنشأت هيئة السوق المالية بالعام 2003، وتلاها طرح شركة الاتصالات للاكتتاب العام، وارتفاع بأحجام التمويل للاستثمار بالسوق، بخلاف إقراض الأفراد الذي كان مرتفعاً.. ووجهت هذه الأموال للسوق من قبل الأفراد ثم أدرجت العديد من الشركات الجيدة، إلا أن تنامي أحجام السيولة فاق بكثير الفرص التي وفرها السوق مما أدى لظهور الفقاعة بالأسعار..
وقد سبق هبوط السوق ودخوله بتصحيح كبير أيضاً قرارات من الجهات المعنية، كتحجيم التمويل وتخفيض بحجم الإقراض للأفراد، وتغييرات بنسب ووحدات التغير السعري كمحاولة للجم الارتفاعات، مما أدى بنهاية المطاف لتصحيح السوق.. هذا بخلاف العوامل الأساسية التي تُبنى عليها القرارات الاستثمارية، فقد كانت معدلات النمو بالأرباح ممتازة والتوزيعات جيدة، وبنهاية الدورة السعرية، تغيرت هذه المعطيات لتصبح كل تلك المؤشرات سلبية لا تتناسب مع قواعد الاستثمار كارتفاع المكررات إلى 45 مرة على السوق، وانخفاض نسبة التوزيعات إلى 1 بالمائة، مقارنة بأسعار الفائدة كانت أعلى بكثير، وبذات الوقت كانت أسعار الأراضي والعقارات منخفضة، فتوجهت لها السيولة لتبدأ رحلة صعود مدعومة بمؤشرات رئيسة مهمة بانعكاسها على عائد الاستثمار العقاري.
فالتوسع الكبير بالإنفاق الحكومي كان أهم مؤشر يدعم توجه السيولة للعقار، حيث الحاجة لتأجير المساكن مع نمو السكان الذي أتى من العمالة الوافدة التي بدأت وتيرة نمو استقدامها لتنفيذ المشاريع بالتسارع، وتوجه الخطط التنموية لتوزيع التنمية على كافة المناطق، وتوقعات زيادة الطلب على الأراضي لتنفيذ المشاريع أو لاستخدامات عديدة..
ولعل الخطة التنموية الحالية والتي اعتمد فيها إنفاق 1440 مليار ريال على المشاريع الحكومية تُعد من المؤشرات التي سارعت بوتيرة ارتفاع حدة التداولات بالسوق العقارية على الأراضي بخلاف الطلب على السكن، وصاحبها عوامل فنية كغياب أنظمة تحد من احتكار الأراضي كالرسوم والزكاة.
إلا أن المرحلة الحالية تشهد تحولات واضحة باتجاهات السيولة، حيث بات السوق المالي هو الوجهة الأقوى لها مع ارتفاع متوسط التداولات إلى الضعف عما كان عليه قبل عام، حيث تصل حالياً إلى عشرة مليارات ريال بعد أن شهدت التداولات انخفاضاً حاداً وصل ببعض الفترات إلى أقل من مليارين، خصوصاً بعد نشوب الأزمة المالية العالمية قبل ستة أعوام، لكن الإصلاحات العديدة بأنظمة السوق المالي وزيادة طرح الشركات التي تجاوزت 160 شركة حالياً من حوالي 75 شركة في العام 2006 الذي شهد بداية التصحيح الكبير بالسوق زاد من فرص الاستثمار، وأصبح السوق أكثر قدرة على استيعاب سيولة أكبر من السابق، يُضاف لذلك صدور قرارات كفتح الاستثمار الأجنبي المباشر بالسوق قبل حوالي شهر ونصف الشهر، وأيضاً الإعلان عن طرح البنك الأهلي للاكتتاب العام المتوقع بالربع الرابع لهذا العام كإضافة كبيرة ومهمة بالسوق ستجذب أموالاً ضخمة للاستثمار به، بخلاف التوقعات بإدراجات عديدة مستقبلاً..
يُضاف لكل ذلك المعايير الأساسية للاستثمار كمكررات الربح المستقبلية، التي تشير إلى إيجابية جيدة فيها، مما يعطي مؤشراً على جدوى الاستثمار بالسوق المالي لفترة طويلة نسبياً قادمة.. كما أن التوقعات بانضمام السوق المحلي لمؤشر الأسواق الناشئة لمورجان ستانلي الشهير، سيضع السوق في واجهة الخيارات الاستثمارية في الخارج باعتباره أكبر سوق بالمنطقة، ويدعم ذلك أيضاً توسيع دور السوق المستقبلي بتمويل الشركات والمشاريع عبر سوق الصكوك، وكل ذلك سيرفع من أحجام السيولة القادمة له كاستثمار أو تداولات.
بينما نجد أن سوق العقار عموماً يخضع لإصلاحات زادت وتيرتها في آخر سنتين، كمشاريع الإسكان الحكومية، والتغييرات بطرق التمويل من الصندوق العقاري، وكذلك من البنوك ومؤسسات التمويل، خصوصاً بعد إقرار نظام الرهن والتمويل العقاري الذي تضمّن ضوابط لن تسمح بتشكيل فقاعة بالأسعار لوقت طويل جداً، حيث لا يمكن أن يتجاوز حجم التمويل أكثر من 70 بالمائة من قيمة العقار، ويدخل من ضمن الأنظمة التقييم الذي سيُبنى على معادلات تضع كل أصل عقاري بقيمة عادلة، وسيكون الضغط أوسع على العقار عند إقرار نظام الزكاة والرسوم عليها، مع الأخذ بعين الاعتبار ما نسمعه بين فترة وأخرى من إلغاء لصكوك أراضٍ من قِبل وزارة العدل يظهر عليها مخالفات وملاحظات نظامية متعددة، مما أعاد مساحات كبيرة بملايين الأمتار بالعديد من المدن..
كما أن تصريح وزارة الإسكان بأنها تستهدف أن لا تمثّل قيمة الأرض من تكلفة المسكن أكثر من 20 بالمائة هو مؤشر إضافي لتوقعات زيادة المعروض من الأراضي لخفض الأسعار.. كما أن ضعف القوة الشرائية لشرائح واسعة أصبحت غير قادرة على شراء أو بناء المسكن بتأثير من ارتفاع أسعار الأراضي يُعد مؤشراً مهماً لبداية تراجع الأسعار، بخلاف تراجع العائد من التأجير للمساكن لمن يُعد حديث عهد بتأسيس مشروع استثماري سكني، لأن الأراضي باتت تشكّل أكثر من نصف التكلفة لأي مشروع خاص أو تجاري.. كل تلك العوامل هي قراءات يمكن تحليلها لمعرفة قوة التأثير باتجاه السوق العقارية مستقبلاً.
ما تم رصده من مؤثرات على كل مرحلة من مراحل اتجاهات أي من سوق الأسهم والعقار، ليس بالضرورة توقع استمرار أحدهما بالارتفاع، أو دخول الآخر بتراجعات أو تصحيح، فالقرار يبقى للمستثمر بنهاية المطاف، ودراسة الجدوى من كل استثمار يتوجه له الفرد، إلا أنه يبقى لتوجهات السيولة للاستثمار أو المضاربة استنادها على معايير عديدة، وما تم رصده ليس إلا عينة من أمثلة عديدة صاحبت سوق الأسهم والعقار بفترات زمنية ليست بالبعيدة، لكنها أعطت ملامح واضحة لمدى تأثيرها بتوجه السيولة والاستثمارات عموماً لأي من القناتين الاستثماريتين.. إلا أن المأمول هو أن يكون هناك توازن دائماً بين توجه الاستثمارات للحفاظ على القيم العادلة والجدوى الاستثمارية بكل قناة أو قطاع، مع أهمية أن يكون لدينا العديد من قنوات الاستثمار الرئيسة، حتى تتوزع السيولة بينها ويبقى العائد مجدياً، وإبعاد الفقاعات عن تلك القنوات لفترات زمنية أطول بكثير مما هي عليه الآن، لأنه ثبت عالمياً أنك لا تستطيع تجنب الفقاعات والتضخم، إلا أنه يمكن توزيعها على فترات زمنية متباعدة، مما يمكّن من امتصاصها أو تحمُّل آثارها لفترة قصيرة.
نقلا عن الجزيرة
ابق على اطلاع بآخر المستجدات.. تابعنا على تويتر
تابِع