سأعود بذاكرتي الى الماضي اكثر من 15 عاما عندما بدأت الكتابة لأول مرة في صحافتنا بشكل متقطع أذكر ان واحدا من أقدم المقالات التي كتبتها حينذاك هو مقال من عدة حلقات في جريدة الوطن ورغم ان الجريدة حذفت منه بعض الجمل (التي كنت اعتقد أنها ضرورية للإيضاح) الا ان المقال في مجمله كان واضحا تعرّض لعدة نقاط اقتصادية مهمة لتحقيق اهداف خطط التنمية من ضمنها توطين القوى العاملة في جميع انواع العمل حتى عمال النظافة عن طريق تكثيف الآلة (رأس المال).
حينذاك قلت إن جميع الأعمال سواء الهيّنة أو الشّاقة يمكن انجازها بطريقتين:
أولا: في الاقتصادات البدائية تعتمد على العضل البشري وهذا مانراه في الطريقة التي ننظف بها شوارعنا حيث نرى مجموعات من العمال يكدحون في عز شمس النهار لتنظيف الشوارع والممرات داخل الأحياء وعندما ينتهون في المساء نجد ان بعض البقع لا زالت كأنها لم تنظّف.
ثانيا: في الاقتصادات الحديثة يمكن الاعتماد على الآلة فالعمل الذي كان ينجز بألوف العمال يمكن استبداله بعامل واحد يستخدم آلات مجهزة لأداء نفس العمل بسهولة ودقة واتقان بدلا من العضل.
لقد قلت حينذاك انه بالنسبة لتنظيف الشوارع يمكننا استخدام السيارات الآلية المجهّزة تجهيزا خاصا للنظافة المستخدمة الآن في بعض المدن الحديثة (وحتى لدينا احيانا نرى عيّنة منها تعمل في المناسبات) يعمل عليها سائق سعودي بمسمى عامل (او سائق) فني.
سأخصّص مقال اليوم لعمّال مهنة النظافة لأنها ربما تكون واحدة من أشد المهن التي دائما نضرب بها المثل بانه لا يمكن توطينها تمهيدا للحديث عن الصناعة عموما المعروفة بمسمى الصناعة كثيفة رأس المال في مقال زاوية الأحد القادم.
وزارة الاقتصاد والتخطيط الآن تتباهى بأنها ستحوّل اقتصاد المملكة الى ما تسميه الاقتصاد المعرفي وهذا على حد مفهومي لاقتصاد المعرفة يعني تلقائيا اضمحلال العمل العضلي واستبداله بالعمل التقني (الآلي) الذي يتطلب القليل من المعرفة والمهارة العقلية لدى عدد ضئيل من العمال لادارة الآلة بدلا من الكثير من الجهد الجسدي والعضلي لأعداد كبيرة من العمال.
الذي نراه الآن أن جميع الأعمال (وعلى رأسها أعمال النظافة) التي يقوم بها القطاع الخاص لدينا وهو الذي سيقود تحولنا الى اقتصاد المعرفة (وفقا لما تقوله وزارة التخطيط) لا زال يركّز على استخدام تكثيف الأيدي العاملة الرخيصة (الخالية عقولها من المعرفة المكتسبة مقارنة بقدراتها الجسدية) بينما جهود حكومتنا الرشيدة تبذل الغالي والرخيص لنشر المعرفة لدى شباب الوطن ولكن للأسف يبدو من الظواهر التي نراها حتى الآن ان مصيرهم سيكون البطالة المقنّعة في غرف مكاتب الوزارات أو على أحسن الأحوال الانضمام الى صفوف حافز وإخوانه الجدد ما سيتفتق عنه ذكاء وزارة العمل.
هذا الانفصام بين الشعارات التي يرددها إعلامنا الرسمي وراء وزارة التخطيط والواقع الذي نعايشه ونراه ظاهرا للعيان إذا لم نغيّر ما بأنفسنا الآن فلن يغيّر الله ما بنا من انفصام.
نعود لتوطين عمال النظافة ما الذي يمنع من خوض تجربة صغيرة في أحد شوارع الرياض وليكن شارع العليا مثلا الممتد من شارع الأعشى بمنفوحة جنوبا الى طريق الأمير سلمان بحي الصحافة شمالا بتشغيل سيارتين لمدة 6 ساعات (من الساعة 12 ليلا الى الساعة 6 صباحا) إحداهما من الشمال الى الجنوب والأخرى من الجنوب الى الشمال.
نقلا عن الرياض