الهيئة الملكية.. نضج الأربعين

23/07/2014 4
د. إحسان بوحليقة

قبل يومين، أعلنت سابك أنها ضخت لخزانة الدولة 70 ملياراً مقابل رأس مال لا يتجاوز عشرة مليارات، وهذا بالتأكيد استثمار ناجح، لكن قصة نجاح سابك لا تنتهي عند الأرباح على الرغم من ضخامتها، ولا تبدأ القصة بها، بل تبدأ بالحضن "الحاني" الذي غُرست فيه بذرة سابك، الهيئة الملكية للجبيل وينبع.

كانت البداية قبل أربعة عقود، كنت حينئذ ما زلت طالباً في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، ولم أكُ أسمع بالجبيل إلا لماماً، وبالفعل كانت مرتبطة بالصيد، وبأسر "أجودية" تكرم الضيف وترتبط بأفضل الروابط مع من حولها، لكني حتى ذاك التاريخ لم أزر تلك البلدة المرتمية بدعة وعنج على ساحل خليجنا العربي، لكن بدأت فرص توظيف جديدة تخرج على السطح، فجلبت معها حيرة لمن هم على وشك التخرج؛ إذ كانت أرامكو هي الجهة المفضلة تقليدياً لخريجي الجامعة أو أحد قطاعات الحكومة المدنية أو العسكرية، وبالفعل انضم أحد الخريجين من دفعة سابقة لدفعتي بالهيئة الملكية وتبعه آخرون، وبقي صديقي هذا يتدرج حتى أصبح من القيادات وكذلك تبعه آخرون.

ومؤخراً، تقاعد زميلي هذا، بعد أن قضى كل حياته الوظيفية مع الهيئة الملكية للجبيل وينبع، وهكذا أستطيع القول إن الهيئة نمت وترعرعت على يد الجيل الباني، والآن في مرحلة التنوع والتوسع وهي مهام ملقاة على الجيل الثاني.

لكن نجاح الهيئة الملكية لم يك ضربة حظ، بل بتهيئة الأسباب في منظومة محكمة، لتكون بنية تحتية للصناعة التحويلية، وتحديداً البتروكيماويات السلعية، معتمدة على استغلال ما كان يحرق من غاز مصاحب كلقيم، وأيضاً دخول الحكومة بقوة لعقد شراكات مع الشركات الرئيسية في العالم، وفي غضون سنوات من انطلاقة الهيئة بدأت تظهر معالم المشاريع الضخمة، ولم تك مجرد هياكل معدنية ضخمة، فخلف كل منها جيش من المهندسين والفنين، شريحة مهمة منهم من السعوديين، الذين تنقلوا في أنحاء المعمورة ليجلبوا الأفضل لبلدهم، وبالفعل بدأت المصانع تنتج لتدور معها عجلة التنويع الصناعي السعودي بسرعة واقتدار ملفت، حتى أن الصحف العالمية التي كانت قبل سنوات تتهم السعوديين بأنهم قد بالغوا في أحلامهم الصناعية، أخذت تغطي الإنجاز الجديد بانبهار.

الهيئة الملكية للجبيل وينبع ملحمة نجاح، قام عليها فكر نير متقدم واستراتيجي، لم ينشغل بالماضي ولا بالمثبطين ولا بالجبال الشامخة من التحديات، فأصحبت حضناً وحصناً للصناعة ومثالاً يحتذى في كيف ننوع اقتصادنا، وكيف ننجح ونصبح رقماً مهماً في صناعة البتروكيماويات، والسر -في ظني- توفير كل متطلبات النجاح كمنظومة متكاملة، وإصرار لا ينثني لتحقيق الهدف المرسوم، قصة النجاح هذه تستحق أن توثق في كتاب رصين وتحلل منهجياً من النواحي الاستراتيجية والهندسية والاقتصادية وريادة الأعمال، وتدرس في جامعاتنا، بل وللقياديين وكبار التنفيذين في الحكومة والقطاع الخاص.

قبل أشهر قليلة لاحظت في مؤتمر الصناعات التحويلية الذي عقد في ينبع، كيف كان المحاضرون يخرجون الواحد تلو الآخر يعرضون أفكارهم ومشاريعهم المبدعة والمشبعة بالتحديات كذلك، ما خطر لي آنئذ أننا أمام الهيئة الملكية -الجيل الثاني-، أي ما بعد الصناعات التحويلية الأساسية والمساندة لها، وأن الطريق الصعب نحو صناعات البتروكيماويات المتخصصة معالمه أخذت تتضح أمامنا، وبالتأكيد الأمر ليس نزهة، بل لعله تحدٍ يتجاوز ما سبقه.

النقطة هنا أن قصة النجاح حتى تستمر عليها ألا تتثاءب، بل تنتقل من مرحلة لأخرى بثبات، وهذا ما نلاحظ من أن الهيئة انطلقت من جبيل-1 إلى جبيل-2 ومن ينبع-1 إلى ينبع-2، وكلفت برأس الخير للصناعات التعدينية وهذا تحد جديد في صناعة عملاقة، ما زال اقتصادنا السعودي على أعتابها، ففي السابق كانت "الدعوة" اسمنت وكسارات، مع التقدير لكل الجهود، لكن ثبتنا على ذلك لسنوات، حتى أخذت قصة سابك تستنسخ -مع التعديل والتطوير- مع معادن، لكن بعد مخاض استمر سنوات، حتى وصل الرأي بمساندة صندوق الاستثمارات العامة لشركة معادن مساندة لا هوادة فيها، والقرار هو الشراكة الاستراتيجية بين الهيئة الملكية وشركة معادن، والجميع يتطلع لنجاح جديد في قطاع التعدين.

ومع كل ذلك، ومع تخطي الهيئة الملكية للأربعين، سبق أن طرحت سؤالاً قبل سنوات، ولعل من الملائم أن أعيد طرحه هنا: لم لا تكون الهيئة الملكية ليس فقط للجبيل وينبع بل لكافة المدن الصناعية؟، ولم لدينا هيئة ملكية وهيئة للمناطق الصناعية (مدن)؟، وطرح السؤال ليس موجبه الخوف من تعدد الهيئات، بل: (1) انشطار إمكانات توفير البنية التحتية الصناعية، وتوفير هذه البنية تمثل نقطة التطابق بين تكليف الهيئتين، وقد يثبت من الدراسة أن لا مجال لدمجهما أو العكس، (2) ليصبح تكليف الهيئة الملكية يغطي البلاد من أقصاها لأقصاها لتكرر قصة نجاح الجبيل وينبع في جوانب المملكة، سواء أكانت مطلة على البحر أو غير مطلة.

نقلا عن اليوم