من مميزات اللجوء للتحكيم، لحسم المنازعات بين الأطراف، الحفاظ عللى السرية وسبر أغوار النزاع في سرية تامة بعيدا عن آذان وأعين أي طرف ثالث وهذا الوضع بالطبع يختلف عند اللجوء للمحاكم، وكقاعدة عامة، تعمل وهي مفتوحة ومسموعة ومرئية من الجميع من أجل نشر الوعي والثقافة القانونية لترسيخ ديمومة الحقوق المرتبطة بها لصالح كل المجتمع.
قاعدة العمل في إطار السرية والمرتبطة بأعمال التحكيم دفعت الكثير من الشركات بل الأفراد للجوء للتحكيم وظل هذا الوضع مستمرا منذ بدايات التحكيم ومراحل تطوره.
ولكن مع التوسع المتدافع وتشعب الأعمال التجارية وخصوصيتها الخاصة ظهرت الحاجة الماسة لوضع المزيد من السياج حول بعض الأمور وخاصة التجارية التي اتضح أنها تحتاج للمزيد من السرية المحكمة بسبب المنافسة الشرسة.
ولهذا نلاحظ مثلا أن أنظمة وقواعد التحكيم الخاصة ببعض المؤسسات التحكيمية الرائدة قامت بوضع أحكام معينة لحماية الأسرار التجارية خاصة والمعلومات السرية عامة.
وهذه الأحكام الجديدة الهامة نجدها تحديدا في قانون التحكيم لغرفة التجارة الدولية بباريس، والجمعية الأمريكية للتحكيم (أي أي أي) في نيويورك، ومحكمة لندن للتحكيم الدولي (أل سي آي أي) في لندن، وقانون التحكيم لمنظمة الملكية الفكرية (الوايبو) في جنيف… إذ نلاحظ وجود أحكام خاصة تنص على أن تقوم محاكم التحكيم التابعة لهذه المؤسسات بمنح الحماية لكل الأمور المتعلقة بالأسرار التجارية والمعلومات السرية المتعلقة بالنزاع المنظور أمامها وعدم البوح بها.
وهذه الأحكام وبما تتضمنه من نصوص واضحة صريحة من دون شك ستلف الأسرار التجارية والمعلومات السرية بسياج أمتن وأقوي حتى لا يخرج منها أي سراب.
وهذه النصوص الصريحة فيها قوة إلزامية يجب على هيئات التحكيم التقيد التام بها، وإلا فهي مخالفة وعليها تحمل ردود فعل هذه المخالفة.
ووجود هذه النصوص المانحة للسرية يعطي المزيد من الطمأنينة للأطراف المتنازعة نظرا لوجود المزيد من سياج السرية الحمائية التي يرغبون فيها عند اللجوء للتحكيم.
وهذا الأمر تحديدا مطلوب نظرا لأن السير في ردهات التحكيم قد يتطلب تقديم بعض الأسرار التجارية أو المعلومات السرية لهيئة التحكيم والأطراف الأخرى، وهذه الأمور المكشوفة بسبب الضرورة لا بد من حمايتها حفاظا على الحقوق وما يتبعها من مكتسبات مادية ومعنوية.
هناك بعض الحالات التي تفرض على الطرف تقديم معلومات كاملة عن أعماله والتعامل بشفافية مطلقة بعيدا من السرية، وهذا يحدث مثلا عند التعامل مع المساهمين، البنوك، شركات التأمين، الجهات الإشرافية والرقابية، الشركاء… وغيرهم من أصحاب العلاقات الخاصة.
ووجود النصوص الصريحة في أنظمة هذه المؤسسات تلزم هيئات التحكيم بمنع الأطراف من الإفصاح عن المعلومات التي تحصلوا عليها أثناء سير التحكيم لأن هناك سرية إضافية تفرضها النصوص ويجب الالتزام التام بمحتواها ومضمونها، وإلا انكسر طوق السرية وانتشر الخبر وعم القرى والحضر. وهذه السرية يجب أن تظل ما لم يسمح أطراف التحكيم بتجاوزها والتنازل عنها.
ومن واقع التجربة، هناك من ينادي أطراف التحكيم بوضع شروط السرية المتعلقة بالأسرار التجارية والمعلومات السرية في قلب اتفاق عقد التحكيم.
وهذا بالطبع سيكون مفيدا جدا انطلاقا من قاعدة العقد شريعة المتعاقدين والتحكيم إرادة الأطراف، وخاصة إذا كان التحكيم أمام مركز أو مؤسسة تحكيم لا توجد بأحكامها نصوص صريحة إضافية لحماية الأسرار التجارية والمعلومات السرية.
ولهذا، وكما ذكرنا في عدة مناسبات، يجب على الأطراف انتهاز فرصة إعداد اتفاق عقد التحكيم والحرص على وضع كل الضمانات والشروط التي يرونها لحماية أنفسهم كل الحماية وأيضا ما يعمل على تحصين التحكيم وهيئة التحكيم.
ونقول إن الحرص عند إعداد عقد اتفاق التحكيم أمر بالغ الأهمية وضرورته الحتمية تفرض على الأطراف، ومنذ مراحل البداية، أخذ “الميل أو الخطوة الإضافية” لتأكيد ضمان وصولهم لتحقيق الهدف وفي أمان تام.
وعند وضع شروط السرية المتعلقة بالأسرار التجارية والمعلومات السرية في عقد اتفاق التحكيم، يجب على الأطراف منح الحق لهيئات التحكيم لاستخدام سلطاتها في الحفاظ على السرية المطلوبة. وللاستمرارية، كذلك من المستحسن منح هذا الحق للجهات المختصة الأخرى ذات العلاقة لممارسته عند انتهاء مهمة التحكيم وتقديم القرار النهائي.
المعلومات السرية المطلوب حمايتها والمشار إليها في الأنظمة المذكورة تم تفسيرها بصورة واسعة عريضة لتتضمن كافة المستندات والوثائق المعروضة أمام هيئة التحكيم وما يدلي به الشهود من بيانات وما تمت مداولته أثناء التحكيم والوقائع المرتبطة بالتحكيم وما يصدر من الهيئة وكذلك قرارات هيئة التحكيم النهائية… كل هذا وغيره من المعلومات السرية التي يجب أن تكون سرية وتظل في طي الكتمان.
ومن أجل ممارسة حق الحفاظ على الأسرار التجارية والمعلومات السرية والمنصوص عليها صراحة في أنظمة المؤسسات أعلاه، على هيئة التحكيم استنفاذ كل الخطوات الضرورية لتحقيق المنشود كإيقاف نشر المعلومات للإعلام والصحافة مثلا، كما يجوز للهيئة الرجوع للمحاكم المختصة والاستعانة بها لتحقيق تنفيذ كافة أوامرها، وكل هذه الإجراءات الاحترازية من صميم السلطات المفترضة في هيئات التحكيم ولا بد من ممارستها للوصول بالتحكيم إلى أعلى المراتب خاصة فيما يتعلق بالأسرار التجارية والمعلومات السرية.
ننادي بضرورة الاستفادة من التجارب العالمية في التحكيم لما ثبت من فوائدها، وهذا يتطلب العمل على النص الصريح على حماية الأسرار التجارية والمعلومات السرية في أنظمة وقوانين التحكيم التابعة لمنطقتنا.
إن وضع الأحكام التي تنظم هذه السرية وما يرتبط بها يوفر المزيد من الحذر، وقطعا ستأتي بنتائج مفيدة للتحكيم ولأطراف التحكيم خاصة من يبحث عن السرية المطلقة.
نقلا عن عمان