يكاد القطاع الزراعي في البلدان العربية أن يكون مهملاً، أو منسياً في غياب توجهات لإنعاشه وإصلاح آليات تشغليه. وربما تتوافر أسباب متنوعة للأوضاع التي تعانيها القطاعات الزراعية في مختلف الاقتصادات العربية، بيد أن سمة الإهمال أو التخلف تبدو واضحة في مختلف البلدان، فالزراعة تواجه مشاكل منذ زمن طويل من أهمها تراجع المساحات الصالحة للزراعة بفعل التصحر والجفاف ونقص المياه، وهذه مشاكل ذات صلة بالبيئة والمناخ وإمدادات المياه.
معلوم، مثلاً، أن نهر النيل يصل السودان ومصر بعدما ينبع من أوغندا ويقطع إثيوبيا، وبرزت خلال السنوات الماضية مشاكل نتيجة لرغبة إثيوبيا في بناء «سد النهضة» الذي يقلل من تدفق المياه إلى السودان ثم مصر، وهناك قضايا إعادة توزيع المياه المتدفقة بما يتوافق مع احتياجات البلدان الأفريقية الأخرى التي تمر بها مسارات النيل. وتنتاب مصر مخاوف جدية من هذه التوجهات فهي تعتمد على مياه النيل، وتزايدت خلال السنوات والعقود الماضية متطلبات المياه بعد ارتفاع أعداد السكان. أما في سورية والعراق أدت إقامة السدود في تركيا على الفرات ودجلة إلى تراجع تدفق النهرين إلى البلدين العربيين وقللت الكميات اللازمة وزادت درجة التصحر في منطقة الجزيرة بسورية ومناطق عدة في العراق.
ولا تقتصر مشكلة المياه على مصر والسودان وسورية والعراق، بل تشمل الأردن ولبنان بما يؤكد أهمية التفكير جدياً في بدائل مستدامة تمكن من توفير الكميات اللازمة للمياه لمختلف الاستخدامات وتعزيز فرص إنعاش القطاع الزراعي في أي من البلدان العربية. وربما يتطلب الأمر البحث في تحلية مياه البحر على أسس تقنية حديثة وبتكاليف مناسبة، وهنا يمكن الاستفادة من تجارب دول عدة في هذا المضمار وتوظيف الأموال اللازمة من أجل التحرر من أزمة نقص المياه وارتفاع تكاليف إنتاجها.
وإذا كانت مشكلة توافر المياه من أهم أسباب تراجع القدرة على إنعاش القطاع الزراعي، ثمة مسائل تتعلق بالسياسات الاقتصادية التي اعتمِدت في بلدان عربية عدة، وأدت إلى تعطيل عملية التنمية الزراعية، فمنذ مطلع خمسينات القرن العشرين، خصوصاً بعد استيلاء العسكريين على السلطة في سورية ومصر والعراق والسودان واليمن والجزائر، اعتمدت فلسفة الإصلاح الزراعي التي هدفت إلى تحقيق العدالة في توزيع الدخل على العاملين في القطاع. واعتمدت الفلسفة على توزيع الأراضي المملوكة من كبار الملاك الزراعيين على الفلاحين.
وإذا كانت عمليات توزيع الأراضي تحاول تحقيق أهداف سامية مثل منح العاملين في الإنتاج الزراعي حقوق الملكية وتحريرهم من استبداد الإقطاعيين، فهي لم تمكن من خلق نظام إنتاج يحقق الكفاية من إنتاج المحاصيل وتحديث آليات الإنتاج ودفع الفلاحين إلى الارتباط بالأرض. ونظراً إلى عدم الاهتمام بتنمية الأرياف والارتقاء بمستويات الخدمات حدثت هجرات من الريف إلى المدينة وأحياناً إلى بلدان أخرى سعياً وراء الرزق.
إن تطوير القطاع الزراعي ورفع مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي في مختلف البلدان العربية يعَدّان من أهم مسؤوليات الإدارات الاقتصادية نظراً إلى ارتفاع الطلب على المواد والسلع الزراعية الأساسية مثل الرز والقمح والذرة، إضافة إلى اللحوم والألبان. وتعاني مختلف البلدان العربية نقصاً شديداً في هذه المواد الأساسية فتستوردها بما يرفع كلفة الواردات ويزيد عجز الميزان التجاري ثم ميزان المدفوعات وإمكانيات تنامي الديون الخارجية. وعلى رغم أن الدول العربية أصبحت أعضاء في منظمة التجارة العالمية، إلا أن أياً منها لم تحقق أي تقدم يذكر على صعيد الاستفادة من ميزاتها النسبية.
وبعدما كانت البلدان العربية مصدرة أساسية للسلع الزراعية أصبحت مستوردة صافية، فمثلاً مصر كانت من أهم البلدان المصدرة للقطن، كما أن العراق كان يصدر الرز والتمور حتى أواخر خمسينات القرن الماضي في حين اشتهرت الجزائر بتصدير الأعناب ومشتقاتها. لكن هذه الميزات تراجعت كثيراً، وباتت البلدان العربية تعتمد على استيراد احتياجاتها الغذائية من بلدان عدة، مثل بلدان الاتحاد الأوروبي التي تصدر فائضها الزراعي بتكاليف منخفضة نظراً إلى سياسات الدعم المعتمدة التي تتناقض ربما مع مفاهيم المنافسة الحرة والكفاءة التي تستهدفها منظمة التجارة.
وتبلغ نسبة مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي في مصر 14.5 في المئة، وفي العراق 3.3 في المئة، وفي الأردن 3.2 في المئة، وفي لبنان 4.6 في المئة، وفي المغرب 15.1 في المئة، وفي السعودية 2 في المئة، وفي الجزائر 4.4 في المئة، وفي السودان 27.4 في المئة، وفي سورية 17.6 في المئة، وفي تونس 8.6 في المئة. هناك إذاً تفاوت مهم في مساهمة الزراعة في النواتج المحلية الإجمالية للبلدان العربية، وربما يعود ذلك إلى طبيعة الاقتصادات وطغيان قطاعات مهمة مثل الصناعات النفطية في بعض البلدان. بيد أن الأمور يجب ألا تقاس بهذا المعيار الذي ربما يكون شكلياً فهناك بلدان مهمة لا تزيد مساهمة القطاع الزراعي فيها عن خمسة في المئة، مثل الولايات المتحدة وكندا وألمانيا، لكنها تتمتع بإنتاج زراعي وفير وتتوافر في أسواقها مختلف المنتجات الزراعية وتصدر فائضها إلى الخارج.
ما هو مطلوب هو مراجعة أوضاع الزراعة في البلدان العربية وكيفية انتهاج سياسات تعمل على إنعاش عمليات الإنتاج ومعالجة المشاكل الأساسية مثل نقص المياه وتوفير التمويل والإبداع في العملية الإنتاجية وحفز اليد العاملة على الالتحاق بالوظائف المتوافرة في القطاع الزراعي. وقد يكون مفيداً العمل على حفز القطاع الخاص في البلدان العربية على تأسيس شركات للإنتاج الزراعي بموجب آليات وأدوات عصرية، ولا بد أن تقوم الحكومات بتسهيل الإجراءات والقوانين وتطوير البنية التحتية المحفزة للعمل في هذا القطاع.
نقلا عن الحياة