قالت صحيفة الفاينانشال تايمز أن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون قد أثار الدهشة بإعلانه نية حكومته طرح " صكوك إسلامية " للتداول، وذكرت أن لندن تسعى لكي تكون المركز العالمي لقطاع التمويل الإسلامي الذي يشهد نمواً سريعاً، وذلك على الرغم من احتدام المنافسة مع دول أخرى هي لوكسمبورج وهونج كونج وجنوب أفريقيا.
إذا عدنا بالذاكرة إلى الخلف قليلاً لعلمنا أن رئيس الوزراء البريطاني قال أمام المنتدى العالمي للاقتصاد والتمويل الإسلامي في دورته التاسعة التي عقدت في لندن نهاية أكتوبر 2013 بمشاركة حوالي 1800 زعيم سياسي وخبراء ورجال أعمال – وهي المرة الأولى التي يعقد فيها المنتدى خارج العالم الإسلامي – " أنا لا أريد أن تصبح لندن عاصمة كبرى للتمويل الإسلامي في العالم الغربي وحسب، لكن أود أن تقف لندن إلى جانب دبي وكوالالمبور كواحدة من عواصم التمويل الإسلامي الكبرى في العالم ". كما كتب وزير ماليته جورج أوزبورن في صحيفة الفاينانشال أيضاً مؤكداً " أن بريطانيا لديها خطة وطموح واضح لأن تكون أول بلد غربي يصدر سندات إسلامية من خارج العالم الإسلامي ".
هذه التصريحات وغيرها الكثير تأتي متماشية مع تقارير شركة " أرنست أند يونج " للخدمات المصرفية الإسلامية العالمية التي تشير إلى تنامي القطاع المصرفي الإسلامي، وقطاع التأمين التعاوني التكافلي، وصناديق الاستثمار المالية الإسلامية، وهذه التقارير تتوقع أن تلامس أصول قطاع المصرفية الإسلامية وحدها عتبة 1,8 تريليون دولار بنهاية 2013، وتحقق نمواً تبلغ قيمته 3,4 تريليون دولار بحلول 2018، وتتنبأ بأن ينمو قطاع التأمين التعاوني التكافلي ويجتذب 25 مليار دولار بنهاية عام 2015.
لا شك أن التقارير والإحصائيات تعطي دلالة واضحة على تنامي الطلب على الخدمات المالية الإسلامية عربياً وعالمياً، ولكن من الضروري والمهم الأخذ بعين الاعتبار لأمرين:
•اختلاف دوافع نمو الخدمات المالية الإسلامية عربياً وعالمياً
فبينما دوافع نمو الخدمات المالية الإسلامية عربياً تأتي من رغبة المسلمين التعبدية في وجود بديل شرعي للمعاملات الربوية هجراً للمحرمات، نجد أن دوافع نمو الخدمات المالية الإسلامية عالمياً تأتي من رغبة الغربيين المادية في الحصول على النصيب الأوفر من كعكة هذا القطاع - حسب تعبيراتهم - أي الحصول على أرباح مرتفعة نتيجة تقديمهم منتجات مالية لأكثر من 1,6 مليار مسلم، من المتوقع زيادتهم بنسبة 35% في السنوات العشرين القادمة، ليصبح عددهم 2,2 مليار نسمة بحلول عام 2030، وفقاً لدراسة حديثة عن مستقبل السكان المسلمين في العالم أعدها مركز " بيو " للدين والحياة العامة.
•تداعيات الأزمة المالية العالمية
كما يظهر اختلاف دوافع نمو الخدمات المالية الإسلامية عربياً وعالمياً بوضوح من واقع ما أحدثته الأزمة المالية العالمية في 2008 من صدمة نوعية في كافة الأوساط السياسية والاقتصادية والإعلامية حتى وصفت بأنها " التسونامي المالي للقرن الحالي " بحسب تصريح محافظ الاحتياطي الفيدرالي الأميركي السابق ألن غريسبان، وهو ما حدا بالرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي كذلك إلى إطلاق تصريحه " إن النظام العالمي كان على شفا الكارثة "، وهو ما دفع رئيس وزراء بريطانيا غوردون براون إلى القول " إن ما يتطلبه الموقف الآن هو مراجعة عالمية شاملة للنظام العالمي ". لقد عكست هذه الأزمة فداحة الرأسمالية، وهو ما زاد من عدد الأصوات المنادية برأسمالية أخلاقية.
في خضم هذه الأزمة العالمية كثر الحديث عن البدائل الإسلامية لمعالجة تداعيات الأزمة، وهو ما دفع بعض الاقتصاديين ممن يتصورون العقود الشرعية الحاكمة للمعاملات المالية منتجات مالية إسلامية إلى اعتبار ذلك فرصة سانحة لتقديم " البنك الإسلامي "، و" التأمين التعاوني الإسلامي "، و" الصك الإسلامي " كنماذج توضح صلاحية وقدرة ما يعتقدون أنه منتجات في التأثير إيجابياً على النظام المالي العالمي، ولم ينتبهوا إلى أن إطلاق مسمى المنتجات المالية الإسلامية على العقود الشرعية الحاكمة للمعاملات المالية أمر خطأ وخطر، لأنه يجعل الناس يتصورون أن من حقهم بيع المنتجات منفصلة عن محل العقد كما يفعل الغربيون وهو غير صحيح، لأن الذي يباع هو محل العقد وليس العقد ذاته، كما يجعلهم يتصورون أيضاً أنه يحق لهم التعديل في أركانها وشروطها وضوابطها كأي منتج مادي يخضع للتطوير والتعديل أو الإلغاء، وهي أمور لا تجوز بأي حال من الأحوال في العقود الشرعية.
قابلت الأوساط الغربية الفاعلة تلك الدعوات بترحيب حار مثير للدهشة، حيث أخذت لندن وباريس تتنافسان على التحول إلى عواصم للتمويل الإسلامي، وكلا الحكومتين بدأتا تدعوان إلى إيجاد آليات لدمج صيغ المعاملات الإسلامية ضمن النظام المالي الرأسمالي المعمول به حالياً.
مستقبل الخدمات المالية الإسلامية في اقتصاد عالمي
هذا العنوان هو للكلمة التي ألقتها " البارونة وارثي " كبيرة وزراء الدولة بالخارجية البريطانية في مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية في يونيو 2013 بشأن الخدمات المالية الإسلامية في بريطانيا، ونشرت مجلة الاقتصاد الإسلامي العالمية مقتطفات منها في عدد أبريل 2014، ولأن البارونة وارثي في كلمتها وضعت النقاط على الحروف وبينت أسباب الاهتمام بتقديم الخدمات المالية الإسلامية في بريطانيا، بما يزيل أسباب الدهشة التي أحدثتها تصريحات رئيس الوزراء ديفيد كاميرون عن نية حكومته إصدار صكوك إسلامية، لذا سأعرض لأهم هذه المقتطفات للتأكيد على اختلاف دوافع تقديم الخدمات المالية الإسلامية عربياً وعالمياً.
•أفتخر بأن وزارة الخارجية البريطانية هي سفيرة التجارة للمملكة المتحدة وقطاع الخدمات المالية الإسلامية يمثل جزء هام من التجارة شهد نمواً رغم الأزمة الاقتصادية، وبالنهاية على المملكة المتحدة أن تصبح مركزاً لهذا القطاع في الغرب.
•إننا نتدارس كيفية إسهام قطاع الخدمات المالية الإسلامية في أهداف سياستنا الخارجية. وهذا ينطبق بشكل خاص على الدول التي شهدت الربيع العربي والتي تمر حالياً بمرحلة من التغيير السياسي والاقتصادي. ففي أنحاء المنطقة 18% فقط من البالغين لديهم حساب مصرفي. هذه أقل نسبة في العالم، وبالنظر لكون أغلب الأسباب المصرح عنها لها صلة بالمعتقدات الدينية، فإن البنك الدولي يرى بأن تطوير منتجات مصرفية مالية تتوافق مع المعتقدات الدينية قد يؤدي لارتفاع هذه النسبة بمعدل 10%. وحكومات المنطقة تشجع الخدمات المالية الإسلامية، ونتيجة لذلك من المتوقع نمو هذا القطاع بدرجة كبيرة، وهذا يعني بأن حجم هذا القطاع بالمنطقة قد ينمو لستة أضعاف في عام 2015 مقارنة بما كان عليه عام 2010.
•مصرتعتزم زيادة حصة أرصدة المصارف التي تتوافق مع الشريعة الإسلامية. كما بدأت المغرب بوضع إطار قانوني شامل لضمان أن تكون الخدمات المالية الإسلامية منافسة وأعلنت بأنها ترغب بأن تصبح مركزاً إقليمياً لهذا القطاع. بينما أعلنت الحكومة التونسية ولأول مرة بأنها ستطرح عن بيع صكوك سيادية. هناك فرصة أمام المملكة المتحدة وقطاع الخدمات المالية الإسلامية خصوصاً، لدعم هذه العملية بتوفير الخبرة، والابتكار المالي، والخدمات التي يحتاج إليها هذا القطاع لكي ينمو، ولدعم التغيير الاقتصادي في المنطقة بطريقة ملموسة.
•هناك ثلاثة أسباب تدعوني للاعتقاد أكثر من أي وقت مضى بأن الوقت الآن مناسب لتشجيع الخدمات المالية الإسلامية هي:
1- أننا ننافس بسباق عالمي على ساحة اقتصادية متغيرة. وبات النفوذ الاقتصادي يتجه شرقاً نحو الصين والهند، ونحو الطبقات الوسطى الناشئة في الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا. كما أننا نواجه منافسة متزايدة من دبي ونيويورك وهونغ كونغ، إلى جانب من مراكز مالية إقليمية مستقبلاً كنيجيريا التي تسعى لأن تكون عاصمة الخدمات المالية في أفريقيا. علينا دائماً أن نسعى للمزيد، والخدمات المالية الإسلامية تعتبر مجالاً يمكننا تطويره. هذا ليس حلاً بسيطاً لكنه فرصة ذهبية، وخصوصا أن 10 من بين 25 من الأسواق التي تشهد نمواً سريعا هي دول ذات أغلبية مسلمة. نريد أن نبرهن للعالم بأن المملكة المتحدة وجهة من الدرجة الأولى للاستثمارات والتجارة الخارجية، وأن نبين بأن بريطانيا مفتوحة أمام الأعمال. وأن ترسل لندن هذه الرسالة بكل وضوح، وهي مازالت المركز المالي الأول في العالم، وهذه مكانة لا يسعنا أن نفقدها.
2- الخدمات المالية الإسلامية تلبي الطلب على الخدمات المالية الأخلاقية. فبعد وقوع الأزمة الاقتصادية – اتضح انقطاع العلاقة بين المخاطر والفائدة – بات الاستغناء عن الربا يروق لعدد أكبر من الناس. وقد شهدنا أسقف كانتربوري يتحدث عن أن أخلاقيات حي المال بمدينة لندن يطغى عليها " ثقافة الاستحقاق "، ما يبعدها عما يعتبر معقولا بالنسبة لسائر العالم. كما تحدث أسقف ويستمنستر عن " ميل رجال الأعمال للشعور بالحاجة لتبني مجموعة مختلفة من الأخلاقيات في قطاع الأعمال تختلف عن الأخلاقيات المتبعة في حياتهم ". وبين البابا فرانسيس في رسالة الحاجة لوجود صالح عام حين هاجم " عبادة المال ودكتاتورية الاقتصاد اللا إنساني المجرد من الشعور ". وهذا يبين في الواقع إن توجه الناس للسعي للاستثمار بما يتوافق مع فلسفتهم الفكرية ومعتقداتهم أمر ليس بجديد ولا ينحصر بالإسلام وحده.
3- أن الخدمات المالية الإسلامية خيار مهم في الوقت الذي تراجعت فيه الثقة في المؤسسات المالية التقليدية، حيث لم يعد بوسعنا الاستمرار كما كنا من قبل. بل علينا إعادة موازنة وتنويع اقتصاد بلادنا لتعزيز الاستقرار، وحماية قطاع المصارف بالتواصل مع الأسواق والمنتجات والمناطق الجديدة، وتنويع المحفظة الاستثمارية بمنتجات ترتكز على المشاركة في المخاطر وليس مجرد الربح، وتتبع إجراءات صارمة لتقييم مدى فاعلية مشروع استثماري قبل الموافقة على تمويله حيث أنه من الضروري أن يحقق المشروع الاستثماري دخلاً وثروة مشروعتين، وفلسفة أنه " لا يمكنك أن تبيع ما لا تملك " توفر درجة من الحماية من المقامرة والغرر.
•من المتوقع أن تبلغ قاعدة سوق الخدمات المالية الإسلامية أكثر من ملياري شخص، هذا إلى جانب من يدرسون الاستفادة منها لأسباب أخلاقية وليس دينية، فإن مبادئ التوازن والمشاركة بالمخاطر والإنصاف والحرص الشديد والإشراف والشفافية وعدم إعطاء قيمة لأصول لا وجود لها التي ترتكز عليها الخدمات المالية الإسلامية، تبدو أكثر أهمية وجاذبية من أي وقت مضى. فهذا هو الوقت المناسب والمكان المناسب للتمويل الإسلامي، ولكن كما قلت من قبل الخدمات المالية الإسلامية ليست هي الحل لكافة المشاكل.
إيضاح واجب ومصارحة مطلوبة
بداية ينبغي توجيه الشكر للبارونة وارثي على صراحتها ووضوحها في بيان أسباب تشجيعها لتقديم الخدمات المالية الإسلامية.
كما ينبغي مصارحتها بأنها إذا كانت تعرف – كما ورد في كلمتها – حقيقة أن الخدمات المالية الإسلامية ترتكز على المشاركة في المخاطر وليس مجرد الربح، وتتبع إجراءات صارمة لتقييم مدى فاعلية أي مشروع استثماري قبل الموافقة على تمويله، وأنه من الضروري أن يحقق المشروع الاستثماري دخلاً وثروة مشروعتين، وأنه " لا يمكن لأحد بيع ما لا يملك "، وأنه لا يحق إعطاء قيمة لأصول لا وجود لها، وأن العلاقة منقطعة بين المخاطر والفائدة، وأن الاستغناء عن الربا بات يروق لعدد أكبر من الناس، وأن الخدمات المالية الإسلامية لها بعد أخلاقي يرتبط بالعدل والإنصاف والشفافية والحرص الشديد والإشراف، وهي أمور توفر درجة حماية من المقامرة والغرر. إذا كانت تعرف كل هذا فإنه يتوجب عليها بحكم مكانتها أن توجه النصح لحكومة دولتها بتبني منهج الاقتصاد الإسلامي بشقيه النظرية والتطبيق معاً إن كان هناك جدية لديها في جعل عقود التمويل الإسلامي ركيزة لنظام مالي عالمي جديد يمنع تكرار الأزمات المالية ويحل المشاكل الاقتصادية، لأنه لا يصح الأخذ بالنظرية دون التطبيق، كما لا يصح التطبيق بدون النظرية، لأنه لا يمكن تطبيق طرق التمويل الإسلامي في ظل نظام اقتصادي قائم على الربا ولا تحكمه أي ضوابط أخلاقية لأن هذا الجمع بين الضدين يؤدي إلى أحد أمرين:
أولهما: أن يتم تحويل العقود الشرعية الحاكمة للمعاملات المالية في الاقتصاد الإسلامي إلى منتجات تباع وتشترى.
ثانيهما: إضفاء الشرعية على المبتكرات المالية الغربية دون الحصول على الجوهر المتمثل في تحقيق العدالة وعدم الإضرار بالغير وتحريم الغش وأكل أموال الناس بالباطل.
وكلا الأمرين مرفوض لأن عقود التمويل الإسلامي لها أركان وشروط وضوابط تحكمها لا يمكن التنازل عنها أو تغييرها أو الالتفاف عليها، وإذا حدث هذا فإنها تصبح معاملات مالية فاسدة ولا تمت للمعاملات المالية الإسلامية بصلة.
أما إذا تجاهلت البارونة وارثي النظرية المالية الإسلامية، واهتمت بالجانب التطبيقي المتمثل في الخدمات المالية الإسلامية بهدف تطوير وابتكار منتجات مالية يحتاج إليها النظام المالي الغربي لكي يخرج من أزمته وينمو، وبذلك تمنح لبريطانيا فرصة ذهبية لاستقطاب وتحويل المزيد من أموال الدول ذات الأغلبية المسلمة، لتستخدمها بريطانيا في تحقيق أهداف سياستها الخارجية، وللمساهمة في تمويل 40 من أهم مشاريع البنية التحتية المحددة في الخطة الوطنية، ثم بعد هذا تؤكد على أن الخدمات المالية الإسلامية ليست هي الحل لكافة المشاكل!! أعتقد أن هذا يتنافى مع مبادئ العدالة والإنصاف والشفافية التي وردت في كلمة البارونة وارثي.
السبب الأول هو كل شيئ يا دكتور: عايزين جزء من الكعكة سواء لها أسس سليمة أم لا. أي اعتبارات أخرى لا تخرج عن كونها آمالنا كمسلمين بأن يكون لنا شأن في عالم الاقتصاد، وأخشى أننا بعيدين جداً جداً عن ذلك. المسألة يا دكتور تحتاج تأسيس علمي منهجي مبني على حقائق علمية، لا على معتقدات وإيديولوجيات. هذا لا يعني أنه لا يمكن الخروج باقتصاد إسلامي، بل إن ما تم حتى الآن مجرد بيع أوهام وضحك على الشعوب الغلابا. وتقبل تحياتي.