يتواتر الحديث عن الإصلاح الاقتصادي في بلدان الخليج، وعن الإمكانات الواقعية لإنجازه. هل يمكن أن يتحقق الإصلاح بتناغم ومن دون عثرات، بعد تكرس ثقافة الاعتماد على الدولة وإنفاقها الممول بريع النفط؟ ثم هل يمكن أن يتحقق الإصلاح في بلدان خليجية محددة ويتعثر في أخرى؟ وعلى رغم تشابه واضح في أوضاع هذه الدول، هناك تباين في مستويات الخلل الاقتصادي ودرجة المصاعب الموضوعية التي قد تعرقل محاولات الإصلاح.
لا شك في ان كل دول الخليج لم تبلغ هذا المستوى من التطور العمراني والتعليمي وهذا القدر من التنمية الإنسانية أو مستوى الدخل، لولا تدفق النفط من آبارها وتصديره إلى البلدان المستهلكة وجني إيرادات سيادية مهمة.
وعندما نتفحص البيانات الاقتصادية الأساسية نجد أن بلدان الخليج تمكنت من بلوغ ناتج إجمالي للدول الست تجاوز 1.2 تريليون دولار خلال السنة الماضية.
كما أن إيراداتها النفطية فاقت 450 بليون دولار. ويذكر ان جل هذه الإيرادات حصدته السعودية والإمارات والكويت وقطر، وتظل عُمان والبحرين من البلدان ذات المداخيل المحدودة نظراً الى انخفاض قدراتها على إنتاج النفط وتصديره بكميات تجارية مهمة.
بيد أن الدعم الذي تقدمه البلدان الخليجية الغنية لكل من السلطنة والبحرين قد يساعدهما على مواجهة التزاماتهما الاقتصادية والاجتماعية.
بعيداً من التحذيرات من إمكان تراجع أسعار النفط أو انخفاض الطلب عليه في المستقبل لأسباب عدة، فإن بلدان الخليج لا بد أن تعيد النظر في أنماطها الاقتصادية الراهنة وتعالج التشوهات الناتجة عن الاعتماد على آليات الإنفاق العام.
مثل هذه المناشدات أو المطالبات الإصلاحية مطروحة منذ زمن طويل، ولكنها لم تجد إرادة حقيقية للإصلاحات بعد أن تكرس الاتكال على الإنفاق العام وارتفاع أسعار النفط، ما وفر إيرادات نفطية مهمة لمواجهة متطلبات ذلك الإنفاق العام.
وقد توهم كثير من السياسيين خلال السنوات الأخيرة أن انعكاسات الربيع العربي التي شملت عدداً من البلدان العربية الرئيسية قد تصل إلى بلدان الخليج، ما يشكل تهديداً للنظام الاجتماعي والسياسي في هذه البلدان.
ولذلك إطلقت برامج للتوسع في الأنفاق العام شملت زيادات في الرواتب والأجور وتحملات اجتماعية ودعماً سلعياً، إضافة إلى تخصيص أموال ضخمة للإنفاق الرأسمالي على المشاريع الأساسية من بنية تحتية وتعليم ورعاية صحية.
قد يكون عدد كبير من هذه المشاريع ضرورياً ومستحقاً، إلا أن محاولة شراء الود السياسي برفع معدلات الرواتب والأجور من دون توقع أي تحسن في الإنتاجية وتعزيز دور هؤلاء المواطنين في مواقع العمل، والتي تشغل غالبيتها بعمالة وافدة من مختلف بقاع الأرض، تتطلب مراجعات منهجية لتعزيز الإصلاح الاقتصادي. لكن الإصلاح الاقتصادي بالاعتماد على العمالة، يبقى محدود الأثر.
منذ بداية عصر النفط في أربعينات القرن العشرين، تمتعت دول الخليج بإيرادات نفطية مكنتها من تطوير أوضاعها الاقتصادية، وحققت على مدى العقود الماضية فوائض مالية، خصوصاً بعد الصدمة النفطية الأولى في منتصف سبعينات القرن الماضي.
وربما واجهت هذه الدول تراجعاً في الإيرادات خلال النصف الثاني من الثمانينات وأدت إلى تحقيق عجوزات في موازناتها، ما دفعها إلى طرح سندات وأذونات خزينة لتمويل العجز.
ولذلك بدأ الحديث عن الإصلاح والتخصيص في تلك السنوات الصعبة، نسبياً، لكن سرعان ما طويت المسألة بعد أن عادت الأسعار إلى التماسك والارتفاع.
بيد أن الإصلاح الاقتصادي بدأ بدرجات متفاوتة حيث قامت السعودية بدفع القطاع الخاص إلى تبني إستراتيجية توظيف وطنية من خلال برامج «السعودة»، كما أن الحكومة السعودية حوّلت مسؤولية كثير من النشاطات الأساسية مثل توليد الكهرباء أو تقطير المياه إلى شركات خاصة، وشجعت عمليات الشراكة بين المستثمرين المحليين والعالميين.
وهكذا تدفقت أموال ضخمة من خلال آليات الاستثمار الأجنبي المباشر، اقتربت في سنوات من حاجز 30 بليون دولار سنوياً. ولا شك في أن السعودية بقاعدتها السكانية الكبيرة واتساع رقعة الفئات الشابة، تستلزم البحث عن بدائل اقتصادية واقعية لمواجهة متغيرات المستقبل، على رغم تمكنها من جني إيرادات نفطية كبيرة.
هل يشعر المسؤولون في بقية بلدان الخليج بالضغوط الاجتماعية ذاتها التي شعر بها المسؤولون في السعودية ودفعتهم إلى تبني حركة إصلاحات مستحقة؟ لا بد أن المسؤولين في عُمان والبحرين لديهم ما يدفعهم إلى العمل على توفير ظروف معيشية أفضل لشعبيهما على رغم الإمكانات المالية المحدودة.
لكن ماذا عن المسؤولين في الكويت والإمارات وقطر؟ البلدان الثلاثة تتمتع بإيرادات تفوق التزاماتها الإنفاقية، على رغم تضخمها، فهي تتسم بقاعدة سكانية وطنية صغيرة قياساً بالحجم السكاني الكلي.
بيد أن التشوهات الاقتصادية واضحة في أي منها، اذ ترتفع مساهمة القطاع العام في الناتج إلى ما يفوق 70 في المئة، كما أن نسبة المواطنين إلى إجمالي السكان تتراوح بين 15 و31 في المئة.
كذلك لا تشكل العمالة الوطنية مساهمة مهمة في سوق العمل، وهي غالباً تتكدس في أروقة القطاع العام. ولذلك فإن الحوافز على الإصلاح وإن كانت أساسية تظل حبيسة القدرات والإرادات.
وكما يذكر اقتصاديو التنمية فإن الشروع في تطبيق آليات الإصلاح يتطلب توافقاً مجتمعياً وإرادة سياسية ودوافع اقتصادية ملحة.
وربما يقوم عدد من بلدان الخليج في تطبيق برامج التخصيص وتعديلات في سوق العمل، لكن يجب أن نؤكد أن هذه البرامج ستظل متفاوتة وفق كل من البلدان وطبيعة الإدارة السياسية.
ومهما يكن من أمر فإن بلدان الخليج لا بد أن تعي أن إمكانات الاعتماد على الأنماط الاقتصادية القائمة لن يمكنها من إنجاز تحولات نوعية على طريق التنمية المستدامة.