قبل أيام تداولت المواقع صورة لأحد شوارع لندن، وكيف "يتكدس" فيه أصحاب المليارات وليس الملايين. ويبدو أني اطلعت على تلك الصورة في لحظة مواتية، فأخذت أتفحصها بتمعن، بما في ذلك الأسماء والثروات المقدرة لكل منها.
وذلك قادني لحقيقة راسخة منذ بدايات تبلور الطروحات حول الاقتصاد السياسي، بما في ذلك ما تناوله أبو الاقتصاد السياسي ريكاردو في كتابه "مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب" في بداية القرن التاسع عشر، وهو الذي صاغ قانون الندرة.
لكن ما علاقة الندرة بالثروات الطائرة؟ للندرة علاقة وثيقة بالسعر، باعتبار أن السعر يرتفع عند زيادة الطلب مع ثبات أو قصور العرض.
أما علاقة الندرة بالثراء الفاحش، فتكمن في أن احتكام عشرات من المليارديرات على حصة مهمة من ثروة العالم، يعني بالضرورة تكدس وتراكم عناصر الإنتاج لديهم، في حين يعاني ملايين من قصور تلك العناصر بما يحد من قدرتهم على الإنتاج والكسب.
ولا بد أن نتذكر أن عدم تكامل عناصر الإنتاج وانسجام مالكيها يولد اقتصاداً غير مستقر بسبب افتقاره للتوازن؛ تصور مثلاً أن شخصاً يملك مخططاً سكنياً ويدرك حاجة الناس له ورغبتهم في شراء قطع من أراضيه، فتكون ردة فعله أن يختبر رغبتهم بأن يعرض القطع على مراحل متتابعة، ليبيع القطع في كل مرحلة بسعر أعلى من المرحلة السابقة لها.
لا إشكال إن كان في مقدور الراغبين الشراء، لكن يحدث عدم التوازن عندما يتضح أن ليس بمقدور أحد شراء تلك القطع المعروضة، ليس لعدم الرغبة بل لعدم امتلاكهم المال. هكذا، تتضح الندرة، أن مورداً ما متوفرٌ لكنه غير متاح، بسبب الارتفاع الهائل لسعره بما يجعله ليس في المتناول.
نعود لشارع المليارديرات.
وتكدس الأثرياء الكبار في لندن، يبين أن معظم هؤلاء يكسب المال من مصادر متعددة وعالمية، وبعيداً على المنافسة باعتباره الأكبر والأكثر تأثيراً على السوق بما يجعل الفاصل بينه وبين بقية اللاعبين في السوق هائلاً، ارتكازا إلى مزاياه التنافسية الواضحة.
وأن تكدس ثروات ضخمة لدى عدد قليل يستوجب تعاملاً يعزز أسس الاستقرار الاجتماعي - الاقتصادي؛ إذ تجدر الإشارة إلى أن على الناحية المقابلة فقرا مدقعا لا يمكن أن يهمل. ما الحل؟ على مدى القرنين من الزمن تكاثرت النظريات والمبادرات حول هذا الأمر تحديداً، وعانت دول عديدة في أوربا بسبب أن الإقطاعيين يرفعون باستمرار أجرة أراضيهم نظير أن يزرعها الفلاحون، لدرجة أن كانت تلك الأجرة توازي أو تقل قليلاً عن قيمة ما ينتجه المزارع من محاصيل.
ولذلك نجد أن في معظم الاقتصادات المنتجة أن الحكومات تجمع الضرائب لسببين رئيسيين: لتنفق على ذاتها وتمول أنشطتها، ولتطلق برامج تساهم في تحقيق التوازن الاجتماعي - الاقتصادي، وأن تلك الضرائب تتناسب طرداً مع تعاظم دخل الفرد.
وبالتأكيد، هذه ليست دعوة لفرض ضرائب، بل للتنبه أن تحقيق التوازن لا يكون بالضرورة من الأخذ من الغني لإعطاء الفقير، ففي ذلك محاذير كثيرة، منها أن الأغنياء من ينتج، أما الفقراء فيكتفون بكتابة قوائم الطلبات.
أما ما يجب أن ينفذ بالضرورة لتحقيق التوازن وصولاً لتوزيع أفضل للدخل وللثروة، فهو منع الغني من الاحتكار والتعسف بما يملك أو القيام بأي ممارسة تربك مستوى الأسعار فجأة، والأمر الثاني تواصل خطوات التنمية وإتاحة فرص التعلم والتدريب والتأهيل للفئات الفقيرة، فذاك هو السبيل الأنجع لإخراج الفقير منهم من فقره، وتمكينه من التقدم مهنياً أو استثمارياً.
وفي مجتمعنا فذلك يمكن التفسير على مستويين، اطلاق مبادرات لاستقطاب الأكثر فقراً اجتماعياًً؛ بما يحسن فرصهم للحصول على تعليم عالٍ وعلى فرص عمل واعدة، وكذلك في توفير فرص التمويل لمشاريعهم الناشئة والصغيرة، فمثل هذه الجهود كفيلة بإيجاد فرص جوهرية قد تستطيع - إن استمرت - أن تضيف آلة لتسريع خروج الفقراء من فقرهم.
ورغم تفاوت وجهات النظر، فهناك فرق – لا شك - بين الاستمرار في منح الإعانات النقدية لسنوات وسنوات، وبين تقديم الدعم لتحفيز الشخص للخروج من فقره إلى رحاب التعلم والعمل والمنافسة.
وهكذا، نجد أنفسنا وجهاً لوجه مع تنفيذ استراتيجية الفقر، وما أنجز منها وكيف كان تأثير ذلك على الشرائح المستهدفة تحديداً وعلى المجتمع إجمالاً.
نقلا عن اليوم