منذ سنوات، قابلت خبيرا كوريا متخصصا في التقنيات العالية، قلت له: ما السر في نظرك لتقدم كوريا المذهل في تطوير التقنيات العالية وخلال فترة وجيزة؟ قال: نحن نتعلم مرة واحدة، أي تعلمنا تشييد المفاعلات النووية مرة واحدة من الفرنسيين، ثم أخذنا نطورها بأنفسنا، وها نحن نصدرها للدول الأخرى.
وقضية التعلم من مرة واحدة محورية، وقد لا تتحقق دائماً لكن من أسباب قوة أي وطن أن يكتسب المهارات والمعارف عبر أبنائه، ولا بد أن يزرع هذا الأمر فيهم ليكون لهم محفزاً من جهة، ويحملهم المسئولية من جانب آخر.
هل يدرك مبتعثونا أن الوطن يعول عليهم؛ للمساهمة في بنائه عند عودتهم؟ قابلت أحدهم قبل أيام، فقال: سأتخرج قريبا وأعود للبلاد لكني وطنت نفسي أني قد أبقى أشهراً بلا عمل!
ما الرسالة التي سيتلقاها الخريج (سواء أكان مبتعثاً أم من جامعة محلية)، عندما تكون هدية تخرجه أن يمكث على قارعة الاقتصاد الوطني أشهراً؟ لا أظن أن في إبقاء خريجينا عاطلين أشهراً ينطوي على أي ترحيب.
إن لم يكن الاقتصاد الوطني بحاجة للخريجين الجامعيين في تخصصات معينة، فلماذا تفتح لهم أبواب القبول في الجامعات ابتداء؟! ولعل من الملائم ملاحظة -ونحن نعايش موسم التخرج-، أننا نستقدم أعداداً كبيرة من الخريجين الجامعيين الوافدين من أصحاب الخبرة القصيرة أو ممن لا يملكون خبرة البتة، ولا بد أن نقرّ أن هؤلاء يمثلون منافساً للخريجين والخريجات السعوديين والسعوديات.
وبعد الإقرار لا بد من عمل شيء، وهو منع استقدام الجامعيين حديثي التخرج، إلا في التخصصات التي فيها نقص واضح. ولا بد أن نواجه أنفسنا، فإن سلمنا جدلاً ان الخريجين من الجامعات المحلية غير ملائمين لمتطلبات سوق العمل، فهل كذلك خريجونا من أفضل جامعات العالم كذلك غير ملائمين لسوق العمل؟ ولماذا حديثو التخرج الوافدون يجدهم البعض موائمين؟!
وحتى إن سلمنا -كذلك جدلاً- بأن خريجينا محلياً من برنامج الابتعاث لا بد لهم من التعطل لأشهر قبل أن يجدوا عملاً نتيجة لتشوهات سوق العمل، فلماذا لا نصمم برنامجا لحديثي التخرج، نسميه "برنامج التطوير المهني"، نهيئ الخريج للحصول على عمل مع إحدى الشركات من خلال التدريب المنتهي بالتوظيف، لا سيما ان برامج من هذا النوع تقدم من خلال العديد من الشركات السعودية الرائدة، مثل: أرامكو، سابك، الكهرباء، والبنوك التجارية، تتراوح مدتها بين عدة أشهر وعدة سنوات.
وبالإمكان أن يُصمم البرنامج من قبل صندوق تنمية الموارد البشرية بالتنسيق مع مجموعة من الشركات، التي تمتلك باعاً في برامج التطوير المهني وتلك التي ترغب في استقطاب خريجين يعملون لديها، لينضم البرنامج المقترح إلى منظومة المبادرات التي أطلقها الصندوق وكان لها أثر إيجابي في تحسين قابلية توظيف المواطنين والمواطنات.
وليس من شك أن أيام المهنة تلعب دورا في الجمع بين الخريجين الباحثين عن عمل وبين أرباب العمل، ولكن قد لا تكون كافية لتنتهي بتوظيف الخريج، أما الطريقة المقترحة لبرنامج التطوير المهني، فهو أن يسجل فيه الراغبون من الخريجين قبل تخرجهم؛ ليلتحقوا به بعد تخرجهم مباشرة، ومن خلال البرنامج يتلقى الخريج عروضاً من الشركات الراغبة، كما أن بوسع الخريج أن يتقدم للشركات التي يرغب في العمل لديها، وفي أثناء البرنامج تتضح مدى ملاءمة الطرفين لبعضهما، ففي كثير من الأحيان يلتحق الخريج في أول فرصة تتاح له، ليجد بعدها بفترة قصيرة أنها لا تمثل طموحه وتطلعاته، وفي حالات أخرى فإن الخريج يلتحق بوظيفة فقط ليحصل على راتب ويستمر في البحث عن وظيفة أفضل، فيقضي السنوات الأولى متنقلاً من وظيفة لأخرى بما يؤثر سلباً على صحيفة أعماله ورغبة الشركات في توظيف شخص متذبذب وظيفياً.
أعود للخبير الكوري لأقول: إننا لن نتعلم الأشياء إلا من خلال أبنائنا المتحفزين للتعلم والمتحركين لخدمة وطنهم ولتحقيق ذواتهم، فتختزن عقولهم الخبرة والمعرفة ويمكثون معها هنا، أما إن اختزنها من سيغادر بها، فلن نبرح نتعلم مرات ومرات، وكل مرة نبدأ من جديد. ولن يكون الخريج متحفزاً إن كان ثمة فارق زمني مُحبِط يفصل بين أوج نشوته بالتخرج وحضيض البطالة وشعوره بأنه ليس محل ترحاب. هذه شهور قاتلة لا بد أن نتفادى وقوع شبابنا في حبائلها.
نقلا عن اليوم