هل الإشكال في وجود العمالة المهنية (المؤهلة علمياً والخبيرة عملياً)؟ لا. أم الإشكال في وجود عمالة وافدة غير ماهرة من التي يقدر تعدادها بالملايين (والجمع عند العرب يعني ثلاثة فأكثر) ممن يعملون في قطاعات مثل التشييد والبناء؟ لا. والسبب أن لدينا نقص فادح في هاتين الشريحتين، أي لا يوجد من السعوديين ما يكفي لتغطية الحاجة. الإشكال الملح هو في الاستقدام على وظائف المهنيين المبتدئين، أي المؤهلين علمياً من المتخرجين حديثاً في الهندسة أو المحاسبة أو الطب، هؤلاء بحاجة لاكتساب الخبرة اكتساباً منهجياً.
بعد الايضاح أعلاه أقول: ثمة من يستهجن الربط بين توطين الوظائف (السعودة) وبين إحلال العمالة الوطنية محل العمالة الوافدة، وهذا الاستهجان في غير محله؛ فهناك من يريد أن يؤسس لواقع باعتباره قدرا لنا يلازمنا أبداً؟ وليس للأمر علاقة بالعمالة الوافدة بحد ذاتها، لكن للأمر كل علاقة بأهمية اتاحة كل الفرص، بل وأن نسعى لصنعها وترتيبها لتتبوأ الموارد البشرية المواطنة أفضل الفرص الوظيفية وأعلاها مردوداً على الوطن وعليها.
سيقول البعض: شريطة أن يكون مؤهلا. وهذا الشرط تحصيل حاصل، فليس مطلوبا أن يشغل ماسك دفاتر وظيفة مشغل في مصنع بتروكيماويات، وليس مقبولا أن يمسك الدفاتر من هو غير مؤهل لذلك.
لكن سرعان ما يرتد السؤال على مصدره: من سيؤهل الشباب ليمتلكوا شروط التوظيف؟ وإن امتلك الشهادة والتدريب، فكيف سيمتلك التأهيل الكافي إن لم نتح له الفرصة ليعمل وليمارس من على رأس العمل، فيراكم الخبرة وبذلك تتحسن كفاءته؟ وبعد أن يمتلك التجربة الكافية والنضج المهني ويصبح خبيراً ينقل خبرته للجيل ممن يأتي بعده، وهكذا يصبح هذا الشخص المؤهل الخبير أشبه ما يكون بخميرة الخبز. لكن ليس من حيلة إن كان هناك من لا يؤمن بكل هذا معتقداً أنه لا خيار سوى الاستقدام بل وتحرير الاستقدام من أي شرط.
من يفكر بالاستقدام باعتباره بلسما لكل مآسي سوق العمل فعليه أن ينظر للأمر من زاوية مختلفة؛ إذ ان المنطلق يجب أن يكون تنمية رأسمال البشري، ولا بأس أن نعيد صياغة كل منظومة اتخاذ القرار ذات الصلة بتعليم وتطوير وتنمية وتوظيف مواردنا البشرية حتى تصب كل الجهود في سياق واحد يؤدي في نهاية المطاف للحفاظ على رأسمالنا البشري وليس تبديده وإهداره دون إدراك، وفي أحيان كثيرة دون أن نتمكن من إيقاف ذلك الهدر.
تصور أن شاباً وافداً حديث التخرج متخصصا في هندسة الاتصالات جاء للعمل في المملكة، فمكث بيننا عشر سنوات، ثم قرر أن يهاجر لكندا، ما مسوغات هجرته لكندا؟ وماذا سيقدم للاقتصاد الكندي؟ ليس المال بل الخبرة، هذه الخبرة هي رأسمالنا البشري الذي نصدره دون اكتراث ودون تقنين ودون أن "يرف لنا جفن"! استقدامنا للمهنيين حديثي التخرج (وظائف دخول) يعني أن يأتوا بقدر محدود من الخبرة ليغادرونا بعدها ومعهم سنوات من الخبرة، التي تمثل رأسمالنا البشري، والتي تولدت نتيجة أننا لم نوظف خريجينا الشباب في مجالهم أفضل توظيف.
ما الحل؟ أن نسعى لاستقدام المهنيين الخبراء المخضرمين، حتى يكتسب منهم شبابنا المهنيون خبرتهم ومعرفتهم، لا أن نستقدم شبابا يافعين ينافسونهم على الخبرة والوظائف.
عندما نفكر في تعظيم الاستفادة من المواطنين فإن ذلك يعني إعدادهم ليأخذوا أفضل وظائف تمكنهم مؤهلاتهم من أخذها، هذه هي الوسيلة لزيادة اعتماد اقتصادنا على كوادره المحلية المؤهلة، وذلك سيحسن فرصنا للحفاظ على رأسمالنا البشري من التصدير.
تصور أننا استقدمنا مهندسا من الفلبين لديه عشرون سنة خبرة في مجال الاتصالات، أي أنه في أوج عطائه، وألصقنا معه عدداً من مهندسي الاتصالات الشبان لمساعدته في إنجاز المهام ذات الصلة بهندسة الاتصالات، ما سيحدث أن الشبان سيكتسبون من المهندس الخبير، وبذلك نبني ونراكم رأسمالا بشريا عوضا عن تصديره في كل مناسبة وأحياناً بدون مناسبة، كما هو الحال الآن.
وتصور أن لديك آلاف المهندسين المخضرمين يصقلون مهارات المهندسين من شبابنا، وتصور أن ذلك طبق في كل المجالات المهنية.
نقلا عن جريدة اليوم
تردد فبل فترة ان شركة الاتصالات السعودية استقدمت فلبينيين لتدربهم على بعض الأعمال الفنية ليقوموا بعد ذلك بتدريب السعوديين في إشارة أن هؤلاء غير قابلين للتدريب المباشر. إن حصل ذلك فعلا، فشر البلية ما يضحك!