تستمر صناعة النفط العربية في لعب الدور الأساس في اقتصاد المنطقة. لكنها تواجه تحديات مهمة، ستؤثر سلباً في اقتصاداتها وأدائها في حال عدم معالجة المشاكل الراهنة.
التحدي الأول هو التدهور الذي يصيب الصناعة النفطية في الحروب والنزاعات المسلحة والحصار الدولي. لقد استمرت الحروب وعمليات الحصار منذ الثمانينات من دون انقطاع، وإن تنوعت تداعياتها بين دولة وأخرى.
وشمل الخراب الناتج منها ما لا يقل عن ثماني دول. فهناك الحروب الطويلة والحصار والاحتلال التي ضربت العراق، ثم الحرائق التي أصابت الصناعة النفطية الكويتية أثناء الاحتلال. وهناك الحصار الذي ضرب ليبيا. والخراب الذي ضرب صناعة النفط الفتية في السودان وجنوبه بسبب الحروب.
كما أن هناك استيلاء ميليشيات «الربيع العربي» على المنشآت النفطية في كل من سورية وليبيا وما نتج منهما من وقف للإنتاج وتخريب لبعض الحقول. وهناك الدمار الذي لحق بالجزائر نتيجة الهجوم الإرهابي على مصنع «عين أميناس» الغازي وقتل عشرات الموظفين والعمال.
وقد توقفت الشركتان الأجنبيتان العاملتان في الحقل، «بي بي» البريطانية و «شتاتويل» النروجية أشهراً عدة عن العمل في الجزائر إلى حين التأكد من سلامة المنشآت. وتخوفت الشركات النفطية العالمية الأخرى من العمل في الجزائر، وانعكس هذا الخوف على رفع سقف شروطها التعاقدية معها.
إن إخفاق الأنظمة العربية في إحلال السلم الاجتماعي وتبني نظم ديموقراطية، سبب رئيس وراء المغامرات الخارجية وتفشي المجموعات الإرهابية التي تخرّب وتغتال الأبرياء. ومن الصعب جداً حماية الصناعة النفطية في هذه الأجواء غير المستقرة.
وهذا أمر مؤسف، إذ إن شركات النفط الوطنية لا تضم إلا مواطنين منذ النصف الثاني من القرن العشرين، واستطاعت منافسة الشركات الأجنبية العملاقة في ظروف صعبة جداً.
وتحاول الميليشيات الفوضوية محاربة الأنظمة من خلال وقف الإنتاج أو تدمير المنشآت، لحجب الأموال عن الدولة. كما تحاول عبثاً تصدير النفط لحسابها الخاص، أو لحساب بعض «القياديين» الذين يتعاملون معها، لجني أرباح فاحشة بسرعة، وعلى حساب البلاد طبعاً.
والتحدي الثاني هو ثقافة الفساد التي عمت الدول العربية. وتختلف أنواع الفساد النفطي، فهي تبدأ من حصول النافذين على وكالات الشركات الأجنبية. طبعاً، لا يقدم الوكيل في هذه الحال سوى خدماته الشخصية التي تقتصر على تسهيل أعمال الشركة مع الدوائر المسؤولة.
ويتوسع مجال الفساد ليشمل مناقصات عقود الخدمة اللوجيستية والهندسية، ومن ثم أعمال التشييد، وأخيراً عقود البيع للشركات العالمية.
تفشى الفساد عربياً، بين المسؤولين من كل المستويات. وما دام هذا الوباء مهيمناً على أجواء العمل في البلاد، فلا يمكن استثناء قطاع النفط، «البقرة الحلوب».
واستطاعت شركات نفطية وطنية اتخاذ الإجراءات اللازمة للحصانة ضد الفساد. لكن هذا هو الاستثناء، على رغم تجارب مهمة لشركات وطنية عربية في مضمار محاربة الفساد.
وهي تجارب صعبة جداً ويُفتخر بها ومشهود لها عالمياً. والنتيجة المترتبة على هذا الوباء هي هبوط الهيكل على أصحابه وبمن فيه.
المشكلة التي تواجهنا، أن الذين يهدمون الهيكل قد برهنوا من خلال التجارب المرة، أنهم ليس أقل فساداً من الذين أطاحوهم.
ثالثاً، هناك طريقة التصرف بالريع النفطي وكيفية توزيعه على بنود الموازنة السنوية. وكما هو معروف يخصص معظم الأموال للمعاشات والتقاعد، وهنا يكمن الخطر، أي في الاعتماد الكبير على معدلات عالية من الإنتاج وأسعار عالية كذلك لتمويل هذا الإنفاق المالي، في وقت لا يمكن ضمان هذه المستويات العالية للإنتاج (التي توازي الطاقة الإنتاجية للبلاد في بعض الأحيان) أو الأسعار العالية.
وبسبب طريقة الحكم في البلاد، وغياب الضرائب، لا يمكن بعض الحكام الاستمرار في طريقة حكمهم من دون «شراء الذمم» من طريق التعيينات غير المجدية.
إن الإنفاق الضخم في مجالات غير إنتاجية، على حساب التطور والتعليم الحديث والخدمات عموماً، والبنى التحتية، هو قرار سهل لكن مساوئه كثيرة. فالبيروقراطية غير المنتجة، بل المعرقلة، تؤدي إلى تعطيل شؤون المواطنين. كما أن تخمتها تعرقل الحياة الاقتصادية وتزيد الرشى لتمرير المعاملات.
رابعاً، خطورة المعدلات المتزايدة للاستهلاك بسبب ازدياد عدد السكان وارتفاع مستويات النمو الحضري وحاجته المتزايدة للطاقة. وفي هذا الصدد، تشير بيانات منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول (أوابك) إلى أن معدل استهلاك الطاقة عربياً ارتفع من حوالى 11.6 مليون برميل مكافئ نفطي يومياً، إلى حوالى 13.5 مليون، بين عامي 2009 و2012. وبلغ متوسط معدل النمو السنوي حوالى 5.2 في المئة. وهذا المعدل أعلى كثيراً من معدلات الزيادة في الدول الصناعية.
وبلغ معدل الزيادة السنوية في الصين في السنوات الأخيرة حوالى 8 في المئة. طبعاً، الفارق كبير ما بين الدول العربية من جهة والدول الصناعية الإنتاجية والصين من جهة أخرى. وهناك تخوف فعلي عند الخبراء العرب من معدلات الاستهلاك العالية هذه والمستمرة منذ سنوات. ففي حال استمرارها، وهذا أمر مرجح، ستنخفض معدلات التصدير بنسب عالية، ما سيؤثر سلباً في الاقتصادات المحلية وفي تجارة النفط العالمية.
هناك طرق عدة لمعالجة هذا التحدي، عبر خطوات مكملة الواحدة الأخرى أهمها: زيادة استعمال الطاقات البديلة في توليد الكهرباء، ورفع أسعار الوقود لتتلاءم مع مستواها العالمي، أو على الأقل، ألا تكون دون كلفة إنتاجها كما هو حاصل حالياً، وتوعية المواطنين بترشيد الاستهلاك، وزيادة استعمال الغاز الطبيعي في توليد الكهرباء بدلاً من المنتجات البترولية، أو حتى النفط الخام (كما في بعض الدول العربية).
من الصعب جداً فصل صحة الصناعة النفطية وسلامتها عن الأوضاع السياسية والاجتماعية المتدهورة في البلاد. لكن، من الممكن إدخال بعض الإصلاحات والسياسات التي تسمح بترشيد عمل الصناعة وإبقاؤها في وضع تنافسي مع مثيلاتها من الصناعات في الدول الأخرى.
نقلا عن جريدة الحياة