بإلقاء نظرة سريعة على التركيبة السكانية بدول مجلس التعاون الخليجي، تبرز بشكل واضح الأهمية النسبية لفئات الشباب من إجمالي السكان، وتتراوح نسبتهم بحدود 40%، حيث ينطوي ذلك على الكثير من التحديات الراهنة والمستقبلية.
ولعل تأهيل الشباب حديثي التخرج؛ للاندماج في سوق العمل، يعتبر من أهم هذه التحديات التي تواجه الدول والمؤسسات ونظم التعليم والتدريب في دول المجلس.
فالتغيرات الجذرية والمتسارعة في شكل وطبيعة متطلبات منظمات الأعمال، أصبحت تتطلب -أكثر من أي وقت مضى- ضرورة وضع برامج خاصة، يتم فيها الربط بين "التعليم" و"التدريب" و"العمل" تهدف إلى مساعدة الشباب للحصول على أول عمل لهم، واندماجهم في عالم العمل وتلبية متطلباته.
ويختلف نمط معطيات العرض من القوى العاملة في دول الخليج العربية، عن الوضع الموجود في الدول النامية، ذلك أن الدول النامية، التي نادرا ما تعاني من نقص في العمال، بل إن العمالة تعتبر عامل وفرة، عادة ما تنجم عنه البطالة، وتعاني تلك الدول من مشكلات رأس المال والتقنية الحديثة.
الوضع في دول الخليج العربي معكوس، فرأس المال يسمح بتوسعة القاعدة الاقتصادية، ولكنها تفتقر الى العمالة الكافية من الناحيتين الكمية والنوعية، الأمر الذي أحدث فجوة بين العرض والطلب على العمالة، تمت تغطيتها عن طريق استيراد العمالة الأجنبية، ومما عزز ذلك أن أغلب الوظائف المتولدة في الاقتصاد الخليجي، هي ذات قيمة مضافة متدنية نسبيا وموجهة للعمالة الأجنبية الرخيصة بالدرجة الأساس. وقد لعب ذلك دورا رئيسيا في الحد من توظيف الشباب الخليجي.
إلا أن هناك عوامل أخرى أثرت على انخفاض معدلات مشاركة القوى العاملة الوطنية الشابة في سوق العمل، تتمثل أولا: في صعوبة تحديد الاحتياجات التدريبية.
فقد تكاد تكون عملية تحديد الاحتياجات التدريبية المستقبلية أشبه بمن يملك قطعا من الشطرنج دون أن تكون لديه لوحة اللعب المقسمة، ذات المربعات البيضاء والسوداء، اللازمة لتحريك هذه القطع باتجاه الهدف، ذلك انه من الصعوبة بمكان التنبؤ بالمهن المستقبلية من خلال الاهداف الاستراتيجية، وما تتطلبه من مهارات.
وبدوره، فإن تحديد الاحتياجات التدريبية بحاجة الى توضيح عدة فرضيات، مثل أهداف الاقتصاد التنموية، وأهدف المؤسسات وتحليل وتصنيف وتحديد السلوك البشري المطلوب؛ لتحقيق هذه الأهداف بوضوح والإطار التدريبي الثابت والواضح ووجوده كقدرة لدى القائمين على تحليل الاحتياجات على جمع وتنظيم وتقييم المعلومات دون أية أخطاء.
وثاني تلك العوامل: هو موضوع التعليم. فإذا ما نظرنا الى المؤسسات التعليمية؛ لوجدنا أن دول المجلس قد حققت تقدما كبيرا في مجال التعليم، بيد أن التعليم لا يزال يعاني من بعض الصعوبات، التي أثرت سلبا على تحقيق المواءمة بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل، من أهمها: عدم التركيز على تنمية المهارات الأساسية في مناهج التعليم، وضعف الأداء المدرسي.
وباختصار، فلكي تقل المعوقات الناجمة عن نقص العمالة الى اقصى حد ممكن، ولكي يرتفع استخدام العمالة الى الحد الأفضل، وينخفض الفاقد الذي يسببه الاستثمار غير الفعال في الموارد البشرية، فإنه ينبغي ايجاد تكامل بين السياسات الاقتصادية وبين التخطيط التربوي والتعليمي.
قد يكون من المفيد دراسة بعض التجارب الدولية، وما حققته من إنجازات، وذلك للاستفادة منها في ايجاد أنسب الحلول ملاءمة للواقع الاقتصادي والاجتماعي في دول مجلس التعاون الخليجي.
ففي فرنسا تم تطبيق برنامج للشباب للذين تتراوح أعمارهم ما بين 17-26 عاما، يعتمد على الارتباط المتبادل بين التدريب في المؤسسات التدريبية وبين الخبرة التي تكتسب في مواقع العمل، فبموجب عقد يبرم مع الدولة، يلتزم صاحب العمل بتنظيم وتمويل تدريب الشباب طالبي العمل، ويبرم معهم عقدا لهذا الغرض، ويحصل صاحب العمل على دعم من الدولة لكل ساعة من ساعات التدريب، وطوال مدة العقد "عاما او عامين" يحصل المتدربون على أجر يتناسب مع مخصصات التصنيف المهني للوظيفة التي يشغلونها وليس قواعد الحد الأدنى للأجور.
وفي الدنمارك، تم انشاء مدارس للانتاج تربط بين التدريب والنشاط الانتاجي لخدمة الشباب الباحثين عن عمل، والذين لا يحملون مؤهلات مهنية، ويكتسب هؤلاء الشباب من هذه المدارس تدريبا وتأهيلا يساعدهم لاحقا في الاندماج في سوق العمل، وتقدم الدولة الدعم لهذه المدارس وتدفع مكافآت وأجور للمتدربين.
كما أن الدنمارك ايضا لديها برنامج يوفر للشباب الذين اتموا دراستهم ويواصلون البحث عن عمل منذ عام، فرص تشغيل لمدة سبعة شهور في القطاع العام، وتسعة شهور في القطاع الخاص، مع منح المساعدة المالية للراغبين في انشاء مؤسساتهم الخاصة تعادل نصف الحد الاقصى لتعويض البطالة لمدة ثلاث سنوات ونصف، وذلك بعد الانتهاء من فترة التشغيل المؤقت.
لذلك، يمكن القول أخيرا: إن احتياجات دول مجلس التعاون الخليجي لتطوير التعليم والتدريب آخذة بالتنامي، كما ونوعا كنتيجة لزيادة متطلبات سوق العمل من الكوادر الفنية المدربة والمؤهلة على أعلى مستويات الكفاءة والجودة، وقد أصبح تأهيل الشباب حديثي التخرج للاندماج في سوق العمل لازما؛ للوفاء بهذه الاحتياجات ولمواكبة التطورات التكنولوجية السريعة التي تحتاج الى تطوير الكفاءات الفنية والإدارية، تلك الكفاءات التي تعتبر عاملا اساسيا في مجال تخطيط وتنفيذ مشروعات وخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وكي نضمن بناء فعالا لمواردنا البشرية الوطنية القادرة على الوفاء بكامل متطلبات الجودة والكفاءات في سوق العمل؛ فلا بد من الاهتمام بالتعليم والتدريب المستمرين، وتوفير برامج إعادة التدريب والتأهيل، وتنويع مستويات التدريب وتطويرها وتعدد أنماط التدريب والتركيز على تعدد المهارات؛ لمواجهة التطور والتجديد في مختلف المجالات.
وقد يكلفنا ذلك تكاليف باهظة، لكن المردود قيمته لا تدانيها كل هذه التكاليف، فالنتيجة الحتمية للمستوى الجيد من التعليم والتدريب والتأهيل هي التنمية الشاملة، التي تعتمد وترتكز أساسا على التنمية البشرية.
نقلا عن جريدة اليوم