تسير بورصات العالم، منذ شهور، على وقع الاقتصاد الصيني. يقلقها تراجع اليوان لأنه يضعف القدرة الشرائية للمستورد الصيني.
أما الأسواق، فيخيفها هذا التراجع لأنه يعني صادرات صينية أرخص.
أسواق العالم غير مرتاحة لتباطؤ النمو الصيني.
المارد الآسيوي أصبح في السنوات الأخيرة محركاً لها. لم تعد الولايات المتحدة تحتل الواجهة منفردة. أية كبوة صينية ولو موقتة تعتبر هزة اقتصادية بكل معانيها.
ضعف العملة الصينية يخفض، ضمن عوامل أخرى، أسعار مواد أولية أهمها خامات المعادن، باعتبار بكين أهم مستورديها.
نمو صيني ضعيف ينعكس أيضاً على صادرات الكماليات الفاخرة، مع تراجع وارداتها منها. وكقاعدة الأوعية المتصلة، تنتقل العدوى إلى سعر عملات مرتبطة بالمواد الأولية، كالدولار الأسترالي.
ما يخيف في هذا الوضع، خصوصاً، أن الدَيْن العالمي تجاوز 100 تريليون دولار (الناتج الأميركي والصيني مجتمعان لا يتجاوزان 24 تريليوناً) أي أن الدَين العام لكل شخص على الأرض يبلغ نحو 6150 دولاراً. تضاعف مرتين ونصف مرة في نحو 12 سنة.
وما يقلق أيضاً هو أن هذا الكمّ من الديون المتراكمة، لا بدّ أن يلقي بثقله على النمو، ويعقّد مهام المصارف المركزية.
الديون فاقمتها الأزمة الاقتصادية. ضاعفها تراجع النمو أو تباطؤه. صعّبت تسديدها أو تحجيمها، آليات تعزيز النمو.
الولايات المتحدة مثلاً انكبت على طبع العملة لدعم الاقتصاد، خوفاً من انهيار بعد أزمة «السابرايم».
وكرت السبحة في مناطق أخرى من العالم، ليرتفع الدَين العام مع تراجع النمو والعائدات وإيرادات الضرائب، ويتفاقم العجز.
لا حلول هنا إلا التقشف مصحوباً بخلق وظائف وزيادة الإنتاج وتنافسيته.
وحدها ألمانيا نجحت في هذا الرهان، وإلى حد ما الصين، واليابان لولا كارثة التسونامي.
من هذا المنطلق، يبدو إفلاس شركات صينية مقلقاً. الصين التي كانت «فزاعة» للغرب، وفي الوقت ذاته متنفساً له، بدأت تنطوي على نفسها لمعالجة ضعف في الأداء. نموها لم يتعدَّ 7.7 في المئة عام 2013، أي الرقم ذاته المسجل في 2012.
مع أن قطاعات معينة، كالخدمات، واصلت تقدمها (46.1 من الناتج)، لتتجاوز الصناعة.
لكن، يرى خبراء أن انتعاش الاقتصاد العالمي الذي بدأ مرحلة من النهوض، قد يكون مفيداً للصين التي ستزيد صادراتها في هذه الحال. وستجذب بكين، في هذا السيناريو، استثمارات خارجية ضخمة.
خبراء أوروبيون لم يبدوا القلق ذاته على اقتصاد الصين ومنه. يعلمون أن «المركزي» الصيني يملك أكبر احتياط نقدي في العالم (يتجاوز 3800 بليون دولار).
بعضهم يذهب أبعد من ذلك. لا يستبعد أن يتحول اليوان، أو «الرينمينبي» (عملة الشعب)، الذي أصبح عملة تداول في التبادل التجاري الدولي، عملة الاحتياط الدولية الأساس. خصوصاً أن بكين لا تدّعي العكس، حتى أنها لا تخفي طموحها في هذا الاتجاه. وما يرجح هذه الفرضية، أن «عملة الشعب» حلت ثانية، مكان اليورو، في التبادلات التجارية الدولية.
مقارعة اليوان للدولار كانت مجرد ضرب من الخيال منذ وقت قصير. مكانة الصين الاقتصادية بدأت تفرضه على الأرض. إجراءات خجولة عززت هذا الاتجاه. بدأت بكين، منذ منتصف الشهر الماضي، تسمح لليوان بالتحرك ضمن مجال ضيق نسبته اثنين في المئة.
كانت متهمة من قبل واشنطن بخفضه لتعزيز صادراتها. لكن العملة اتخذت منحى صعودياً في السنوات الأخيرة، رضيت به العاصمة الأميركية من دون ضجة.
(ومع أن صعوده يضر بالصادرات، إلا أنه يعزز القدرة الشرائية للمواطنين). الحجة الصينية لهذا الإجراء هي أن المضاربين الأجانب «شنوا» حملة استثمارات ضخمة بهدف جني أرباح من الصعود المتواصل للرنمنبي.
الحل الوحيد كان في فتح هامش المناورة. والسياسة المالية للدولة وضعت نصب أعينها مستقبلاً واعداً لليوان.
من الصعب التكهن بنوايا السلطات المالية الصينية، المرتبطة وثيقاً بسياسة الدولة. وهي لا تخفي طموحات مستقبلية تجعل من اليوان عملة الاحتياط لدى المصارف المركزية العالمية.
يعلم صانعو القرار أن التشدد على الصعيد الاقتصادي، سيترك بصمة سلبية على النشاط العام عالمياً. يفضلون إحاطة نواياهم بشيء من الضبابية، من دون أن تكون عصيّة على التفسير.
بعض الليونة لن يُفسَّر بتَوق إلى الرأسمالية، لكنه قد يثير قلق واشنطن. سترى فيه من دون شك استمراراً في السعي إلى تتويج اليوان. عملات عالمية قبل الدولار فقدت سيطرتها العالمية، ليس أقلها الاسترليني مع أفول الامبراطورية البريطانية، أو الفرنك الفرنسي بعد زمن الاستعمار.
وما يعزز قناعات واشنطن في هذا الاتجاه، القرار الصادر في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي عن اجتماعات اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، بإنشاء منطقة تبادل حر في شنغهاي، يصبح اليوان فيها قابلاً للتحويل، وحركة رؤوس الأموال حرة.
ويرى خبراء في السياسة المالية الصينية أن بكين تواصل هجومها ومبادراتها لتضعف المكانة العالمية للدولار، عارضة اليوان للحلول مكانه.
يساعدها في ذلك الديون الأميركية الضخمة، والتي اشترت منها الصين كميات كبيرة.
المساعي الصينية الممهدة لهذا الهدف تواصلت في السنوات الأخيرة. من اتفاقات مالية بين «المركزي» الصيني ونظرائه الأوروبي والبريطاني والياباني، إلى سوق السندات الخاص في هونغ كونغ، إلى اتفاق مع حي المال في لندن كمنصة «أوفشور» لتداول الين... يعزز ذلك دعوات من مسؤولين عالميين طالبوا في وقت من الأوقات بإصلاح النظام المالي العالمي، وتقليص الارتباط بالدولار.
لا شك في أن مواظبة الصين في هذا الاتجاه، ستفضي إلى «معركة» مع الدولار، قد تكون أطول مما يتوقع بعضهم.
لكن لم يعد مستبعداً أن اليوان، وإن لم يتحول عملة الاحتياط العالمية بامتياز، سيصبح عملة احتياط، مع مزيد من المثابرة الصينية، ومزيد من الوقت. أما الحلم الأكبر، فلا أحد يجرؤ على التكهن به للمستقبل، القريب أو البعيد.
نقلا عن جريدة الحياة