تلقي الأزمات السياسية العربية ظلالها على صناعة النفط في دول المنطقة من خلال تفكيك هذه الصناعة الإقليمية الأساسية التي شُيِّدت عبر نصف القرن الماضي من خلال جهود شركات النفط الوطنية.
وتشيع محاولات من القوى السياسية في المناطق المنتجة استلام زمام أمور الصناعة واستبعاد التعاون مع وزارة النفط أو شركة النفط الوطنية من خلال «مناطقية نفطية».
والحجة التي يسوقها أصحاب هذه الدعوة هي أن الحكومة المركزية لم تبادر إلى تطوير المناطق النفطية التي تدر الأموال للبلاد.
طبيعي أن هذه المبادرة لا تنحصر بموضوع النفط، فطوال تاريخ الصناعة النفطية في بلداننا يؤدي العامل السياسي دوراً مهماً.
وهذه هي الحال في التجربة الحالية، أكانت في العراق أو ليبيا أو السودان. وتبلغ الطاقة الإنتاجية للدول الثلاث هذه نحو 5.6 مليون برميل يومياً (3.6 مليون للعراق، و1.6 مليون لليبيا، و500 ألف للسودان).
لم نكن لنصل إلى هذه الحال التعيسة لولا سوء الحكم وشيوع ثقافة الفساد وإهمال إيلاء الأولوية لمصلحة البلاد.
لكن يجب أن نذكر أن آثار سوء الحكم هذا أصاب الجميع، المناطق الحضرية بسوء الخدمات والتشويه الذي لحق بها، والأطراف، أكانت ريفية أو قبلية، بشبه انعدام لمشاريع التطوير.
واستغل المسؤولون عن المناطق النفطية الوهن الذي أصاب بلدانهم، نتيجة حكم ديكتاتوري طال أمده، والتدخل العسكري لقوى خارجية، والحروب الأهلية، ووضعوا أيديهم على الصناعة النفطية في مناطقهم عن طريق القوة العسكرية المتوافرة لهم.
وينتهي مطاف هذه التجربة عادة بتقاسم «الكعكة» ما بين زعماء المركز والزعماء المحليين الجدد، من دون تحقيق الاستفادة المنشودة من السكان المحليين.
أما سياسياً فنجد، مثلاً، أن النفط أدى دوراً أساسياً في بروز إقليم كردستان العراقي. وساعدت هذه الأموال في تنمية الإقليم في شكل سريع وواضح.
والسبب وراء اهتمام الإقليم بتطوير موارده الهيدروكربونية هو وضع اليد على ريع نفطي عال، من أجل تحقيق سياسة استقلالية عن بغداد تسمح أولاً في تكوين مركز لاتخاذ القرار مستقل عن سياسة الدولة وهذا ما هو حاصل ولكنه سيؤدي في نهاية المطاف وتدريجاً إلى الاستقلال عن العراق في الوقت المناسب.
وهنا يجب طرح الأسئلة التالية: لماذا لم يجرِ تطوير الحقول في المنطقة الكردية سابقاً؟ السبب هو أن اكتشاف الحقول العملاقة في الجنوب، خصوصاً في محافظة البصرة والمحافظات المجاورة لها، وتكاليف الإنتاج الضئيلة نسبياً هناك، نظراً إلى ضخامة احتياطات هذه الحقول وقربها من موانئ التصدير، دفعت بشركة النفط الوطنية العراقية إلى التركيز على الجنوب.
أما بالنسبة إلى ليبيا، فثمة شبهات حول المليشيات المسيطرة على حقول المناطق الشرقية (إقليم برقة) إذ تشير معلومات إلى أن هذه المليشيات لا تمثل وجهة نظر غالبية السكان في منطقتها، كما تشير معلومات أخرى إلى تعاونها مع فلول نظام القذافي لتخريب اقتصاد البلاد وإثارة القلاقل للنظام الجديد.
أما محاولة التصدير اليتيمة التي حاولت المليشيات القيام بها أخيراً، فرُفِع خلالها علم كوريا الشمالية على الناقلة من دون علم الدولة المعنية، ما أثار شكوكاً في هوية المشترين، ومنع الناقلة من التوجه إلى أوروبا أو آسيا.
ورست الناقلة في شرق المتوسط، في المياه الدولية خارج الحدود البحرية لقبرص، لبيع النفط لإسرائيل في مقابل أسعار مخفضة.
وفي سورية، انخفض مستوى الإنتاج النفطي إلى مستويات متدنية، من 380 ألف برميل يومياً قبل بدء الحرب الأهلية في ربيع 2011.
واستولي على معظم الحقول في المناطق الشرقية من قبل مليشيات، ويجري الإنتاج في صورة بدائية للحصول على كمية ضئيلة جداً من نفوط الآبار لأجل التهريب إلى الدول المجاورة بحسوم عالية أو للاستغلال في السوق السوداء محلياً حيث تُباع للمواطنين بأسعار فاحشة.
وعلى رغم الخلاف العرقي في السودان، من المستبعد أن يتمكن أهل الجنوب من الانفصال وتمويل دولة جديدة فقيرة. لكن ما أدى إلى تمزق البلاد كان توافر المال النفطي، وتدخل قوى إقليمية وأجنبية طامعة في هذا النفط.
تعلم القوى المعارضة جيداً أن حجب النفط عن الدولة المركزية يؤدي إلى ضعضعة ووهن الحكومة لعدم توافر الأموال اللازمة لدفع رواتب الموظفين أو تنفيذ المشاريع، وأن استيلائها على الثروة النفطية في مناطقها سيوفر لها نفوذاً قوياً على الصعيد الداخلي، وسيمكنها من الاعتماد على ذاتها مالياً، بدل الاستجداء من قوى إقليمية أو داخلية. هذه هي الأسباب الرئيسة لاستخدام النفط في المعارك الداخلية الراهنة.
واللافت أن محاولات الاستيلاء على المنشآت النفطية في المناطق المهمشة يتبناها سياسيون جدد من خلال تنظيماتهم العسكرية، وأن الاستيلاء بالقوة على الثروة النفطية يؤدي عادة إلى بروز قوى سياسية تتشابه في تصرفاتها مع القوى المركزية وتقاسمها «الكعكة».
ولكن وربما هذا هو من أسباب التخلف، ثمة غياب لاهتمام منظمات المجتمع المدني بهذا الموضوع الحيوي، خصوصاً في المرحلة الانتقالية الدقيقة التي نمر بها.
وما يجري حالياً يضعضع صلاحيات شركات النفط الوطنية وطريقة أدائها للعمل.
والأخطر أن تقسيم هذه الصناعة الحيوية يؤدي إلى فتح المجال لشركات النفط الدولية لاختراق الصناعة النفطية، واستغلال الخلافات القائمة.
نقلا عن جريدة الحياة