عند التلفت حولنا سنجد أن دولاً استطاعت أن تحقق نجاحات باهرة رغم عدم امتلاكها لأي مورد، ولعل أول مثال يقفز للذهن هو سنغافورة، بلد صغير من حيث المساحة ولا يملك أي مورد طبيعي، لكنها تمكنت من أن تضاعف متوسط دخل الفرد 80 ضعفاً خلال خمسين عاماً.
وعند التمعن، نجد أن سنغافورة تمكنت ليس فقط من جعل اقتصادها متنوعا، بل جعلته يحاكي، من حيث الهيكلية، ومن حيث مساهمة قطاع الخدمات والتقنيات العالية.
ولعل من المفيد تذكر، أن سنغافورة مثلاً تنتج نحو 1.4 مليون برميل يومياً من المشتقات البترولية المكررة، رغم أنها تستورد كل احتياجاتها من الهيدروكربون من نفط وغاز طبيعي، وتأتي معظم وارداتها من دول مجلس التعاون وخصوصاً المملكة والامارات العربية المتحدة.
أي أن سنغافورة تستورد النفط الخام وتكرره وتعيد تصدير مشتقاته، مستغلة أمرين: الأول، موقعها الجغرافي المميز بين المحيطين الأطلسي والهادي، والثاني، توفر بنية لوجستية متكاملة للتخزين والتكرير والشحن.
وحذق سنغافورة لم يكتشف اليوم، لكنه يدعو للإعجاب لسبب أساس وهو أن هذا البلد الصغير، يسابق الزمن، لعل ذلك نابع من قلق مسيطر، فهي -في حقيقة الأمر- لا تملك إلا جهدها، لذا تحرص على تنافسيتها والارتقاء الدائم بها لتكون في المقدمة. لكن الاعجاب يزداد بقدرة الانسان على تجاوز الصعوبات وندرة الموارد عند التأمل فيما أنجزته كوريا. فهي كذلك لا تملك أي موارد طبيعية من نفط أو غاز لكن طاقتها التكريرية تبلغ ضعف مصافي سنغافورة (أي 2.8 مليون برميل يومياً)، لكن كوريا لا تصدر المشتقات بل تستخدمها لتشغيل اقتصادها الضخم.
ويبدو أن عقلية كوريا تنافسية من الطراز الأول، فقد بدأت في الستينيات استراتيجية للانطلاق للعالم بالمزاوجة بين أسلوب الاحلال محل الواردات وفي ذات الوقت تنمية صادراتها للعالم، وحالياً تحل في المرتبة الأولى عالمياً في بناء السفن وتصنيع التلفزيون الرقمي والشاشات، والمرتبة الثانية عالمياً في صناعة معدات الاتصالات، والثالثة عالمياً في أشباه الموصلات، والخامسة عالمياً في صناعات البتروكيماويات والسيارات.
وحتى لا أستطرد، فقد تكفي الإشارة أن قيمة الصادرات الكورية نمت 5000 ضعف خلال خمسين عاماً؛ منذ بداية الستينيات وحتى الآن.
عندما نتلفت حولنا سنجد بلداناً لم تحظ بموارد تذكر لكنها تمكنت من ارتقاء سلم المنافسة العالمية، تتعدد الأمثلة لكن حالتي سنغافورة وكوريا صارختان -إن جاز التعبير- لافتقارهما للموارد الطبيعية، بما يثبت أن إبداع الانسان وحذقه التقني والإداري هو الأهم لتحقيق أي نجاح.
وحسنا فعلت وزارة الاقتصاد والتخطيط باستدعاء المعهد الكوري للاستفادة من تجربتهم التخطيطية، وعلينا كذلك التعرف على آليات التنفيذ، إذ ليس بإمكان أي خطة أن تنجح إن لم تنفذ.
ولا بد هنا من الإقرار بأن المملكة اتخذت خطوات مهمة خلال سنوات الخطة الخمسية التاسعة الحالية؛ منها زيادة الطاقة التكريرية، والسعي للتكامل بين صناعتي التكرير والبتروكيماويات.
ويبدو اهتمام الحكومة متزايداً بقطاع الصناعات التحويلية لتتكامل مع الصناعات الأساسية، ويتضح ذلك بعد قرار مجلس الوزراء تأسيس شركة الشركة العربية السعودية للاستثمارات الصناعية التي يبلغ رأس مالها 2 مليار ريال، ولعل هذه الشركة (سايك) تجد الحلقة المفقودة بين صناعاتنا الأساسية والصناعة التحويلية (downstream).
ولا بد من الاستدراك أن صناعاتنا التحويلية قطعت شوطاً مهما على مدى الأربعين عاماً الماضية لأسباب أهمها وجود المناطق الصناعية والتمويل الميسر والعناصر التي أتت لاحقاً كبرنامج تمويل الصادرات، ما جعل الصادرات الصناعية السعودية تتضاعف 1600 مرة في أربعة عقود (1974-2012) طبقاً لبيانات الصندوق السعودي للتنمية الصناعية.
لكننا نسعى، وفقاً للاستراتيجية الصناعية، أن نصبح دولة صناعية، وهذا يتطلب أن نضاعف مساهمة الصناعة التحويلية في الاقتصاد الوطني، نحن متفوقون على هذه، لكن يبدو أن وجهات النظر تتفاوت عندما نصل إلى «متى»!
نقلا عن جريدة اليوم
مقال ممتاز - يدل على الحس الوطني
مقال جميل. مشكور يا دكتور على اطروحاتكلمميزة
great article ...thanks