أمضت بلدان الخليج العربي عقوداً في ظل الاقتصاد النفطي، ولكن ثمة حقائق اقتصادية تكرست خلال هذه الفترة.
لقد أصبح الاقتصاد البحريني، مثلاً، اقتصاداً لا يعتمد على النفط كثيراً وأصبحت الخدمات، المالية والمصرفية والسياحية، من أهم مكونات اقتصاد هذا البلد المحدود الموارد الطبيعية.
وتمكنت إمارة دبي من تطوير اقتصاد متنوع الإيرادات، أهمها إيرادات السياحة والمؤتمرات والمعارض ناهيك عن التجارة وإعادة التصدير.
وظلت البحرين والكويت حتى ثلاثينات القرن الماضي من أهم مصدّري اللؤلؤ إلى الهند وغيرها قبل أن تنهار هذه التجارة بعدما تمكن اليابانيون من تطوير اللؤلؤ الصناعي.
ونشطت كذلك أعمال تجارية عدة بين بلدان الخليج، انطلاقاً من البحرين والكويت، وبين بلدان شرق أفريقيا والهند لتصدير بضائع مثل التمور واستيراد بضائع مثل البهارات والمواد الغذائية الأساسية والأخشاب والفحم ومواد البناء.
واعتمدت تلك النشاطات على اليد العاملة المحلية المقبلة من قاعدة سكانية صغيرة في أي من بلدان الخليج.
غني عن البيان أن اكتشاف النفط وإنتاجه وتصديره أنتج تحولات مهمة في العمل الاقتصادي في مختلف بلدان الخليج وعزز الاعتماد على إيرادات النفط التي عمدت حكومات هذه البلدان إلى إنفاقها من خلال آليات عدة من أجل إنعاش الحياة الاقتصادية وتحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين والوافدين الذين قدموا للمساهمة في تشغيل الأعمال المختلفة في مختلف القطاعات الاقتصادية والعمل لدى الحكومة أو القطاع الخاص في هذه البلدان.
لكن هل يمكن توقع متغيرات مهمة وهيكلية في نهاية العقد الجاري بما يخفف من هيمنة النفط على اقتصادات بلدان المنطقة؟ ثمة تقارير تشير إلى احتمالات تراجع أسعار النفط ومن ثم عدم تمكن الحكومات من مواجهة التزامات الإنفاق الجاري وتخصيص أموال للإنفاق الاستثماري.
وصدرت بعض هذه التقارير عن مؤسسات مرموقة مثل صندوق النقد الدولي واعتمدت في فرضياتها على إمكانيات متزايدة لانخفاض الطلب على نفط دول «أوبك» بعدما تمكنت الولايات المتحدة من تعزيز قدراتها الإنتاجية في حقول النفط والغاز الصخريين وتزايد إمكانيات أن تصبح الولايات المتحدة البلد الأول في إنتاج النفط وتخفض الطلب على النفط المستورد.
إن بلدان الخليج مدعوة لأن تعي أهمية هذه التحديات، سواء الإنتاج من مصادر النفط الأخرى في البلدان المستهلكة الأساسية أو غيرها من بلدان أو من إمكانيات تطوير مصادر طاقة بديل ومنها الطاقة المتجددة المعتمدة على الطاقة الشمسية أو الرياح أو غيرها.
ولا بد أن تلك المصادر البديلة ستكون أكثر قدرة على منافسة النفط، والذي يمثل في الوقت الراهن 40 في المئة من مصادر الطاقة، إذا ما جرى التحكم بتكاليف إنتاج تلك الطاقات.
وبلدان الخليج مدعوة إلى التنبه لإمكانيات تحسين كفاءة الاستخدام والتي لا ريب في أنها تحسنت خلال السنوات والعقود الماضية في شكل كبير.
هناك إمكانيات لتحسين كفاءة استخدام وسائط النقل للطاقة المولدة للحركة، وهذا التطور يمثل قفزة مهمة في استخدام الطاقة إذ أن وسائط النقل تمثل عنصراً أساسياً في الطلب على النفط.
ويبدو أن أهم تحد تواجهه بلدان الخليج هو النمط الاقتصادي الذي اعتمدته منذ بداية عصر النفط. هذا النمط الذي يعتمد على توظيف إيرادات النفط من خلال آليات الإنفاق العام، خصوصاً الإنفاق الجاري، كرس اتكالية مجتمعية على الدولة وقدراتها الإنفاقية.
كذلك أدى نمو الإنفاق الجاري بمعدلات عالية، تتجاوز أحياناً 10 في المئة سنوياً، إلى توقعات مستمرة بزيادة قيمة الإيرادات النفطية سنوياً.
يقابل ذلك استمرار النمو السكاني الناتج من الزيادات الطبيعية للمواطنين والمقيمين واستمرار تدفق الوافدين من الخارج للانخراط في وظائف جديدة في مؤسسات القطاعين الخاص والعام.
تفرض هذه الأوضاع ضغوطاً على الحكومات لزيادة الإنفاق والتوسع في إقامة المرافق والخدمات لمواجهة المتطلبات المتزايدة، ومنها المتطلبات التعليمية والصحية.
وإذا كان عدد سكان الكويت أصبح مطلع الشهر الجاري أربعة ملايين شخص، منهم 2.7 مليون وافد، فإن ذلك يعني طلباً متزايداً على مختلف أنواع الخدمات والمرافق الحيوية ويتطلب تحسين قدرات القائم منها والتوسع في الإنفاق الرأسمالي لتفادي الاختناق.
لا بد من اعتماد بلدان المنطقة إستراتيجية ذكية تؤكد أهمية الاستثمار في البشر من خلال مراجعة الأنظمة التعليمية السائدة وتعزيز التعليم العصري الذي يؤثر العلوم والتطبيقات المهنية المفيدة.
فالتعليم في هذه البلدان ينتج أعداداً كبيرة من المتعلمين ولكن في مجالات غير أساسية ما كرس الاعتماد على العمال الوافدين.
وظل الاقتصاد الريعي يعزز سلوكيات مجتمعية وأنماط إنفاق استهلاكية مسرفة بما زاد من الاعتماد على اليد العاملة الهامشية.
ويتطلب التنويع تطويراً إضافياً لدور القطاع الخاص لتحمل أعباء توظيف المواطنين وإنتاج الخدمات الأساسية التي اضطلعت بها الدولة.
نقلا عن جريدة الحياة