في عصر العولمة تتحلى دول العالم بنوعين من المزايا: النوع الأول يشكل المزايا النسبية للثروات الطبيعية التي تمتلكها الدول، لتتميز عن غيرها بمخزونها الضخم وانخفاض أسعار إنتاجها ومردود أسعارها العالمية، مثل النفط السعودي والغاز القطري والذهب الأفريقي والقمح الأميركي والأرز الهندي.
والنوع الثاني يشكل المزايا التنافسية للثروات التقنية التي تتمتع بها الدول، لتتميز عن غيرها بعقول خبرائها وسواعد أجيالها وبراءات اختراعاتها، مثل التقنية اليابانية والكفاءة الأميركية والصناعة الألمانية والإنتاجية الكورية.
في العقد الماضي بدأت دول العالم في استغلال نظرية التكامل الاقتصادي من خلال دمج عناصر المزايا التنافسية للدول مع مقومات المزايا النسبية للدول الأخرى، التي أدت إلى إبرام 84 اتفاقية إقليمية فيما بينها، وحققت النجاح في زيادة الدخل الصافي لاقتصادياتها وكسب الأسواق العالمية لصالح صادراتها.
فاليابان التي طالما اعتمدت على استيراد المزايا النسبية السعودية، المكونة من نفط وغاز، وأضافتها إلى مزاياها التنافسية، المكونة من عقول أبنائها وسواعد أجيالها، تقدمت بنجاح في تصنيع وتسويق أفضل أنواع السيارات وأعقد أجهزة الاتصالات وتقنية المعلومات وأشهر معدات تحلية المياه ومحطات توليد الكهرباء في أرجاء المعمورة.
من هنا بادرت السعودية إلى تشجيع المزيد من التكامل الاقتصادي مع اليابان، لتستفيد السعودية من مزايا اليابان التنافسية وتستفيد اليابان من مزايا السعودية النسبية، مما يؤهل التكامل بين الدولتين الصديقتين وتطوير الصناعة والتقنية والكفاءة الإنتاجية وفتح المزيد من الأسواق العالمية لتنمية صادراتهما وتجارتهما.
اليابان، التي تعتمد في تصنيع منتجاتها على 86% من المواد الأولية المستوردة، كانت أول من أبدع في استغلال مزاياها التنافسية، من خلال إيمانها بنظرية التفاضل التقني، التي تنادي بأنه في حال تساوي الأسعار العالمية لمنتجات معينة في أسواق معينة، فإن تفوق تقنية المنتجات اليابانية يصبح الفاصل النهائي في المفاضلة بينها وبين المنتجات العالمية الأخرى.
لذا كان تركيز اليابان على التقنية وتطويرها لغزو الأسواق العالمية، مما أدى إلى تفوق منتجاتها على مثيلاتها الأوروبية والأميركية، فحققت اليوم المركز الرابع كأكبر اقتصاد في العالم والمركز الثالث كأكبر مصدّر للمنتجات في مختلف أرجاء المعمورة.
نجاح المعجزة اليابانية شجع الدول الأخرى، التي تفتقد المزايا النسبية مثل الصين والهند وكوريا الجنوبية وتايلند وسنغافوره، على تطبيق نظرية التكامل الاقتصادي من خلال استيراد هذه المزايا ودمجها مع مزاياها التنافسية. وأصبحت أولويات هذه الدول تعتمد على رفع الكفاءة التنافسية لصناعاتها وزيادة التحرير التدريجي لأسواقها وفتح أسواق الدول الأخرى أمام المنافسة العادلة لمنتجاتها.
على عكس ما تنتهجه الدول النامية الأخرى، لجأت الهند إلى تخفيض الرسوم الجمركية على وارداتها من السلع التي تمتلك المزايا النسبية، مثل النفط والغاز، وفتحت أسواقها للاستثمار الأجنبي وإلغاء تحكّم الدولة في الأسعار، لتحقق في العقد الماضي نتائج خطتها التنموية الطموحة بنمو اقتصادي مستدام نسبته 8% سنوياً.
وقامت كوريا الجنوبية بتحديد ثلاثة أهداف أساسية لتحقيق التكامل الاقتصادي.
كان الهدف الأول يرمي إلى توطين تقنية الصناعات الثقيلة التي تعتمد على استيراد المزايا النسبية من الطاقة والمواد الأولية، فأصبحت كوريا خلال العقد الماضي من أفضل منتجي الحديد والصلب في العالم وأنشأت أكبر الأحواض الجافة في جنوب وشرق آسيا لتصنيع وإصلاح السفن.
وكان الهدف الثاني يرمي إلى تحقيق أفضل المستويات العالمية في خدمات الاتصالات وتقنية المعلومات، فلجأت إلى ربط جميع مدنها وقراها بأكبر وأسرع شبكة للاتصالات الضوئية في العالم لتصبح أفضل دولة في تقديم الخدمات الإلكترونية بين دول المعمورة.
وجاء الهدف الثالث ليختص برفع مستوى التعليم وتوجيه مخرجاته الفنية لتوطين العمالة الوطنية، فنجحت كوريا في إنشاء جيل من الخبراء والمهنيين والمصنعين لتصبح خامس أكبر مصّدر للمنتجات الصناعية الوطنية في الأسواق العالمية.
أما الصين، التي اتخذت قراراً استراتيجياً قبل عقدين من الزمن يهدف إلى الانفتاح على العالم الخارجي، فقد نجحت في تخفيض مساهمة الدولة في شركاتها الحكومية إلى 53% خلال 10 سنوات ثم إلى 34% في العام الماضي، مما أدى إلى سرعة تنفيذ سياسة التكامل الاقتصادي وزيادة تدفق المزايا النسبية إلى الأسواق الصينية، فأصبحت السعودية أكبر دولة مصدرة للنفط إلى الصين بنسبة 14% من إجمالي احتياجات الصين من النفط، ومن المتوقع زيادة هذه النسبة إلى 37% نتيجة ارتفاع استهلاك الصين إلى 20 مليون برميل يومياً بحلول 2030.
ولتعزيز قدراتها التنافسية في مختلف أسواق دول العالم، لجأت الصين عام 2012 إلى البدء في تكوين منطقة تجارة حرة مع اليابان وكوريا الجنوبية، ليفوق حجم إجمالي الناتج المحلي للدول الثلاث في العام الجاري 15 تريليون دولار أميركي، تعادل 20% من الإجمالي العالمي و70% من الإجمالي الآسيوي، لتحتل هذه الدول المركز الثالث عالمياً بعد الاتحاد الأوروبي وأميركا الشمالية.
وتستمر المملكة في حصد نتائج تطبيقها لمبادئ التجارة الحرة واقتصاد السوق، لتقفز في العام الجاري إلى المرتبة 17 ضمن الاقتصاديات الأكبر في العالم، وتحقق المركز الثالث بين الدول الأسرع نمواً في القرية الكونية بعد الصين والهند.
واليوم تنجح السعودية في توجيه دفة العولمة لصالحها، باتفاقها مع اليابان لتعزيز التكامل الاقتصادي بين الدولتين الصديقتين في الأسواق العالمية المتنامية، وتصبح المملكة من أكبر المستفيدين من مزايا اليابان التنافسية.
نأمل أن تتجه أنظارنا في المرحلة القادمة إلى الصين والهند وكوريا أيضاً، فأول الغيث قطرة.
نقلا عن جريدة الوطن