تتسارع الخطوات التي تتخذها دول مجلس التعاون الخليجي للدخول في اتفاقيات دولية، تفرض عليها بدورها اتخاذ المزيد من الإجراءات للانفتاح الاقتصادي، وتحرير الأنشطة التجارية والاستثمارية والمالية وغيرها، وفي مقدمتها اتفاقيات منظمة التجارة العالمية، واتفاقيات التجارة الحرة التي عادة ما تفرض التزامات وتعاقدات أكبر مما تفرضه منظمة التجارة العالمية، من حيث درجة تحرير الأنشطة الاقتصادية (السلع والخدمات) والالتزام بحقوق الملكية الفكرية والشفافية وتطوير التجارة الالكترونية وقوانين العمل وحماية البيئة وغيرها.
وعلى ضوء هذه التوجهات والاتفاقيات، شهدت دول مجلس التعاون خلال السنوات القليلة الماضية تداول وتنفيذ العديد من التشريعات والقوانين الهادفة الى تحرير التجارة والاقتصاد في خطوات تكيفية لما تفرضه تلك الاتفاقيات.
وقد شملت هذه التشريعات والقوانين عدة مجالات حيوية، مثل الخدمات المالية والاستثمار الأجنبي والوكالات التجارية، علاوة على خدمات الاستشارات والمحاماة والتأمين على الحياة وتخفيض الجمارك على السلع.
وقد واجهت معظم التعديلات الهادفة الى تحرير التشريعات والقوانين الخاصة بهذه الانشطة معارضة وتمنعا، ولا سيما من قبل القطاع الخاص أو أصحاب الأنشطة المعنية، فيما حاولت الجهات المختصة توضيح اهداف هذه التعديلات مثلما يحدث هذه الأيام حول موضوعي الوكالات التجارية وكفالة العمالة الأجنبية.
على اية حال اذا كان هذا كله مفهوما، حيث هو الحال في معظم دول العالم، فان الامر الذي لا يثير الارتياح بالدرجة المطلوبة هو ما نلاحظ من عدم حصول دول مجلس التعاون الخليجي على أي استفادة او مزايا ملحوظة حتى الآن، مقابل ما قدمته وتقدمه من خطوات بموجب قواعد واجراءات التحرر الاقتصادي.
ويمكن الاستدلال على ذلك من ارقام الاستثمارات الأجنبية المستقطبة لدول المجلس، والتي لم تتجاوز نسبتها 2% من مجموع قيمة الاستثمارات الأجنبية المتدفقة حول العالم خلال العام 2012.
بل ان اهم سلعة – وهو النفط – والتي يمكن ان تستفيد دول المجلس من خضوعها لقواعد التحرر الاقتصادي لم تدخل ضمن اتفاقية منظمة التجارة العالمية حتى الآن. لذلك لابد ان تتوقف دول المجلس امام هذه القضايا، وتبحث بجدية ما تقبضه من أثمان مقابل ما تقدمه من تنازلات وتضحيات تلبى متطلبات النظام العالمي الاقتصادي الجديد.
نقول: اننا ندرك ان نهج التحرر الاقتصادي يبرز في الوقت الراهن كنهج عالمي، تتبعه الكثير من الدول في اطار برامج موضوعة للإصلاح الاقتصادي، تنطوي على جعل الانشطة الاقتصادية والاستثمارية قائمة على اساس التنافس والكفاءة امام المستثمرين المحليين والاجانب وتخليص الاقتصاد من التشوهات والمعوقات التي تحد من تحقيق ذلك. وبمعنى آخر فان اقتصاديات دول المجلس - وبالمحصلة النهائية - لا بد ان تنفتح امام اقتصاديات العالم، سواء تحت مظلة الاتفاقيات الدولية او غيرها من المظلات، فالسنوات القادمة هي سنوات اندماج الاقتصاديات وتكاملها على مستوى العالم.
الا اننا يجب ان نؤكد في الوقت نفسه ان شعار التحرر الاقتصادي ليس غاية بحد ذاته، بل هو وسيلة لبلوغ غاية معينة، كما ان اجراءات التحرر الاقتصادي يجب ان تراعي المصالح الوطنية البعيدة المدى لدول المجلس. وهاتان قضيتان مهمتان يجب ان نتوقف امامهما.
ففيما يخص القضية الاولى، فاننا نلاحظ انه وعلى الرغم من الجهود المتواصلة والحثيثة التي تبذلها الاجهزة المعنية في دول المنطقة من اجل تثبيت وتطوير سياسات التحرر الاقتصادي، والتي جاءت ثمرتها حصول بعض هذه الدول على مراكز متقدمة من حيث التحرر الاقتصادي عالميا، نقول على الرغم من هذه الجهود، فان التحرر الاقتصادي المتحقق لم يتم استثماره بالشكل المطلوب، سواء في جذب الاستثمارات الخارجية.
فاجراءات التحرير الاقتصادي تنطوي على تكاليف يدفعها الاقتصاد الوطني نفسه، واذا لم تقابل هذه التكاليف المردودات المرضية على المديين القصير والطويل الاجل، فلا بد ان يعاد النظر في تلك الاجراءات.
أما القضية الثانية، فهى الخاصة بالاجراءات المصاحبه لقرارات التحرير الاقتصادي، فعندما يجري الحديث عن اندماج اقتصاديات العالم وتكاملها خلال السنوات القادمة، فان القائمين على تخطيط وتوجيه هذه الاقتصاديات لا بد انهم الآن يواصلون البحث عن المزايا الخاصة التى تتمتع بها اقتصادياتهم، لتمتاز بها عن بقية دول العالم في منظومة الاندماج والتكامل.
وفي الوقت الذي نتفق فيه بان الاستعداد لهذا الاندماج بحاجة الى خطوات تتخذ منذ الآن، لكيلا نجبر لاحقا على اتخاذ خطوات متعجلة وقسرية، فاننا نرى ان فترة السماح الممنوحة للدول النامية لتحرير اقتصادياتها، ليس المقصود منها تمكين هذه الدول من اتخاذ خطوات تمهيدية على طريق التحرير والتكامل فحسب، بل والاهم من ذلك تأهيل انشطتها وقطاعاتها الاقتصادية، وخاصة تلك التي تمتاز بمزايا تنافسية واضحة تؤهلها للاستمرار والتفوق، حتى بظل الانفتاح الكامل، وذلك من خلال سلسلة من اجراءات التعزيز والتقوية الذاتية.
فعلى سبيل المثال نحن لم نفهم بالفعل كيف تعجز شركات التأمين الوطنية في بعض دول المجلس، طوال السنوات الماضية عن تأسيس شركة مشتركة ضخمة للتأمين على الحياة، فيما بينها، بينما نجد بعضها يلجأ للتحالف مع شركات تأمين أجنبية أو تشجيع هذه الشركات لممارسة هذا النشاط في دولها.
كذلك بالنسبة لقانون الوكالات التجارية، فمن المهم ان يرافق تحرير هذا النشاط وجود جهود منسقة بين وزارات التجارة وغرف التجارة، لتحسين مناخ النشاط التجاري وتمكين الفعاليات البارزة فيه من تعزيز مواقعها على اسس الكفاءة والمنافسة، وليس على أسس الاحتكار.
اننا واثقون ان انشطة وقطاعات اقتصادية عديدة تمتاز بمزايا تنافسية كبيرة، تؤهلها للاستمرارية والبقاء لتلعب دورا رئيسا في تنويع اقتصاديات بلدانها.
والمطلوب تحديد هذه الانشطة والقطاعات والعمل على تعزيزها وتأهيلها وتقوية امكاناتها الذاتية، جنبا الى جنب مع اجراءات التحرير، ولكيلا يخلق احساسا معادا لهذه الاجراءات، يصورها وكأنها تريد القضاء على الصناعات ورؤس الأموال الوطنية، بدلا من تشجيعها وفتح مجالات جديدة للعمل والاستثمار أمامها.
نقلا عن جريدة اليوم