هيئة الاستثمار … ما لها وما عليها

09/01/2014 3
د. حمزة السالم

كتب كاتب هذه الأيام يثني على فكرة المدن الاقتصادية، ذاكرا بعضا من محامدها، إلا أنه ساقها في سياق الذم والخطأ. وطالب بعد ذلك بمتابعتها والاهتمام بها.

 ولكن هذا الكاتب لم تصل به أمانته أو علمه و إدراكه، ليعترف بأنه هو وأمثاله كانوا من أهم أسباب عرقلة وتأخير المدن الاقتصادية بل وعرقلة النهضة التنموية كلها.

فالسبب المباشر والرئيسي الذي أصاب من المدن الاقتصادية مقتلها، وفتح الفرصة لتحريك الشارع السعودي ضدها، هو الأزمة المالية العالمية.

فقد قامت المدن الاقتصادية على نموذج دبي وسنغافورة. وهذا النموذج قام على أساس الاعتماد على الاستثمار الأجنبي. والاستثمار الأجنبي ليس مالا فقط، إنما خبرات ودعايات وتبادل تجاري وثقافة عمل تأتي معه.

وإلغاء هذا العامل الأساسي من النموذج يفسد النتائج كلها، ويجعلها غير متوقعة. ومن السذاجة والسطحية، القياس على نموذج الجبيل وينبع والدعوة إلى إتباعه.

فهدف الجبيل وينبع وفكرتهما مختلفة تماما. فهي مدن صناعات ضخمة تابعة للبترول فقط فلا توظف الكثير، وليس لها مشاركة تذكر في بناء ثقافة المجتمع وتعليمه، بدليل أن الكثير -وأنا منهم- لا ندري عن تفاصيلها أصلا.

وعلى ذمة الكاتب الآنف الإشارة إليه، فإن كلاً من مدينة الجبيل وينبع كلفت40% من الناتج المحلي آنذاك. فإن صح كلامه، فإن هذا لوحده فقط يكفي دليلا على خطأ القياس والدعوة لإتباع نموذجهما.

والأزمة المالية ضربت دبي وقد بدأت في الإنشاءات، مما يعطيها ميزة أكبر في التفاوض مع الأجنبي لإجباره لإكمال ما خسره على المشاريع، إلا أنه بالرغم من ذلك فقد أوجعت الأزمة المالية دبي، وتوقفت جميع النشاطات الاقتصادية فيها، لولا وقوف حاكمها بشدة وثقة في مواجهة أي إعلام وأي إشاعات أو أكاذيب ضدها بتفنيده ونحو ذلك، لانهارت دبي كما تعطلت المدن الاقتصادية.

وأنا أقول، إن ثقة الأجنبي بعد الأزمة المالية مباشرة، كانت أقوى وأرسخ في مستقبل المدن الاقتصادية من ثقته في دبي، لولا أن الأجنبي أدرك حقيقة أن الهيئة والمدن كانت متقدمة زمنيا على ثقافة الشارع السعودي، بسبب ما رآه من تصرفات الشارع تجاه المدن بعد الأزمة المالية. فعاد لدبي، وتوقف قراره عن المدن الاقتصادية. فقد كان أمراً طبيعياً أن يتوقف كل شيء مع بداية الأزمة المالية، ولكن قيام حملة إعلامية والتي اعتمدت على الاستخفاف بالشارع السعودي في ترويج فكرة حصر أعمال الهيئة في مطعم شاورما وحمص.

والعجيب هو أن كثيرا من العقلاء والمثقفين المحايدين انجرفوا مع هذه الحملة المُحطمة للمدن وللهيئة، ولم يتفكروا بتحليل الأخبار والنظر بمنطق في الحقائق والتوقف عن الإشاعات، التي كانت تُروى عن فلان الواصل وفلان الكبير.

فلم يتفكروا بأن الهيئة والمدن لم تأخذ من أموال الدولة شيئا، والأجنبي أحرص على ماله منهم.

وأن الهيئة، إن كانت قد أهملت جانبا لكنها أقامت جوانب، والكمال لله. فقد أقامت فكرة المدن الاقتصادية، ووضعت السعودية في أعلى تصنيف عالمي، وزرعت ثقافة تعاون القطاع الخاص مع الدولة والابتعاد عن التمويل الحكومي، وثقافة الثقة بكثير من المنشآت الصغيرة السعودية، التي أشار إليها الكاتب المُشار إليه في سياق يعيب الهيئة بها.

ويعيب اهتمام الهيئة بالدعاية والإعلام في تدشين المدن وغيرها وهو من صميم عملها، في الترويج للسعودية وللمدن في جلب الاستثمار الأجنبي، وأن الهيئة وإن تكون قد أهملت جانبا - كتدليل المستثمر السعودي مثلا- إلا أنه انتهى إلى حال أحسن مما كان عليه. فإن قلنا بأن هناك أخطاء، فهلا تفكروا بأنها أخطاء لم تكن على حساب المال العام، وأنهم لم يمهلوها قليلا من الزمن وينظروا إلى من يتشدق بالجبيل وينبع، كم أخذت تلك المدينتين من الزمن وقد كان لهما دعم سياسي ومالي كامل.

الهيئة كانت أول انطلاقة باكورة الإصلاح الاقتصادي، وأول محاولة لتجديد الأسلوب الإداري الحكومي، فحنق عليها من لم يظفر بغنيمة من مشاريعها. وأخذ على خاطره منها من لم تشاوره في مشروع لها.

كما كانت الهيئة أول جهة حكومية، يأخذ بعض موظفيها رواتب أعلى من غيرهم، فأثارت الغيرة والحسد، كما أثارتهما في الأنداد من الجهات الحكومية.

فعندما قامت الحملة الإعلامية ضدها لم يتفكر الشارع لحظة، ويحاول أن يقارنها على الأقل بالجهات الحكومية الأخرى، وعين السخط تبدي المساويا. أعتقد أنه من أمارات نضوج الشارع السعودي تكون متى ما اعترفنا بخطأ المجتمع على الهيئة، ومتى ما جعلناها حالة تُدرس من دروس النهضة التنموية الحديثة.

إن تأخر المشاريع اليوم وبطء الإنجازات يعود كثير منه إلى خوف الوزارات من زعل فلان وعلان، إن لم يؤخذ بخاطره في لجنة أو في مدح أو في تعديه دون المرور عليه. الوزارات اليوم والمجتمع يدفعون ثمن المساهمة أو السكوت على تعطيل انطلاقة الهيئة والمدن، فالإنجازات الكثيرة والمشاريع الطموحة هي التي تثير شكوك وامتعاض الشارع السعودي وليس الجمود، ولا يغنم في هذا المحيط إلا من له مصلحة.

نقلا عن جريدة الجزيرة