لم تعد المنشآت الخاصة والعامة الغربية تنظر إلى ثروتها على أنها تنحصر في أرصدتها المالية ومنتجاتها المخزنة بمستودعاتها وأصولها الثابتة من مبان ومعدات وغيرها، فقد أفاقت هذه المنشآت على حقيقة هامة هي أن المنتجات والخدمات التي تقدمها للسوق لم تكن نتيجة مواد أولية فقط، وإنما هي نتاج معادلة مزج فيها الفكر الإنساني بالمال بالمواد الأولية لإنتاج سلعة أو خدمة، وأن الفكر الإنساني هو روح المنتج.. وكان علم المحاسبة عند ظهوره في1494م، على يد راهب إيطالي هو لوكا باسيولي الذي وضع ما سماه بقاعدة القيد المزدوج Double entry، وحتى نهاية القرن العشرين يركز عند حساب الأصول على الجانب المالي، ولا يعير العنصر البشري أي اهتمام.
ومع أن علم المحاسبة أتاح للشركات القيام بضبط شئونها المالية عند ظهوره وحتى السنوات الأخيرة، لكنه لم يكن يعطي عقل الإنسان وهو مصدر الثراء الحقيقي أي حيز في قواعده المحاسبية.
وفي أواخر القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين شهد علم المحاسبة المعمول به في الغرب تحولا جديدا في طريقة حساب رأس المال، لأنه أوجد قواعد محاسبية يمكن من خلالها تحديد القيمة الفعلية لرأس المال العقلي Intellectual Capital في المنشأة.
ولقد بدأت المؤسسات الغربية في بذل جهود جادة لوضع معايير مالية يقاس بواسطتها مدى مساهمة الفكر والمعرفة الإنسانية في تحقيق الربح والنمو للمؤسسة أو الشركة، خاصة وأن المؤسسات والشركات في هذا العصر أصبحت تعتمد على الفكر والثقافة بشكل جعل كثيرا من الباحثين يطلق على شركات اليوم Knowledge based- Company، وليس من المستبعد أن تطالعنا الصحف في المستقبل القريب بقوائم مالية للشركات تظهر فيها تقديرات لرأس المال العقلي بالدولارات.
ولقد نشطت في الآونة الأخيرة كثير من معاهد المحاسبة في وضع ضوابط محاسبية لتحديد القيمة الحقيقية لأداء الشركة بشكل دقيق، والأخذ في الاعتبار المدخلات العقلية في الإنتاج.
وفي سكوتلندا قام معهد المحاسبين المعتمدين بوضع معايير غير مالية لقياس أداء الشركات، وفي أمريكا الشمالية وضعت إجراءات مماثلة يقوم بها المعهد الأمريكي للمحاسبين المعتمدين، وكذلك معهد المحاسبين المعتمدين الكندي.
ويقول إيدموند جنكيز وكان شريكا في شركة أرثر أندرسن وكان يرأس فريق عمل لهذا الغرض: «إن عناصر التكلفة في المنتج تتكون من نتائج البحوث، ومن أفكار وخدمات وليس أشياء مادية فقط، ولهذا فإن النظام المحاسبي القديم المعمول به حالياً لم يعد ينطبق على هذا العصر».
ولم يعد الاهتمام بالمحاسبة الهادفة إلى تثمين الثروة العقلية في هذه الأيام مجرد بدعة أو ممارسة لأشخاص نظريين، فالبنك الامبريالي الكندي للتجارة وهو سابع بنك في أمريكا الشمالية والذي كانت أصوله تبلغ 107 بلايين دولار منذ سنوات، بدأ في عام 2002 يجعل عملية إدارة الثروة العقلية وحسابها أمراً واقعاً غير في استراتيجيته الخاصة بالموارد البشرية، وجعله يعيد صياغة كثير من عمليات البنك وفقاً للمفاهيم الجديدة.
كما قامت مجموعة سكانديا في العام 1998وهي أكبر مجموعة مالية في اسكندنافيا بعمل تقرير سنوي عن أصولها الفكرية، كان يعده ليف ادفينسون مدير رأس المال العقلي، الذي قال: «حينما بدأنا منذ سنوات كنّا الرواد الأوائل في هذا الحقل، وكنا نبحث عن دليل بأننا في الاتجاه الصحيح، أما الآن فقد أصبحت إدارة رأس المال العقلي حركة قوية في العالم».
ومع أن هذه الحركة على حد قول تومس ستيورت -أحد كتاب مجلة الفورتشن البارزين- حركة فتية إلا أنها تضم مجموعة متباينة من المحاسبين، والاستشاريين، والمهندسين، وأخصائيي الموارد البشرية، والمشتغلين بعلم الحساب.
وقد اتخذ كثير من الشركات إجراءات تهدف إلى إدارة رأس مالها العقلي، وقد آتت الجهود ثمارها في شكل نتائج مالية باهرة.
ونحن نقول للشركات في منطقة الخليج وفي الدول العربية: لقد آن الأوان أن تنظروا إلى القوة البشرية لديكم بأنها قوة عقلية، يمكن أن تضيف قيمة لمنتجاتكم من خلال الحصول منهم على أفكار مبدعة.
ولعل أول خطوة في هذا الإطار أن يتخلى المدراء عن النزعة التقليدية في الممارسة الإدارية، ويحرروا موظفيهم من استعبادهم لهم كما صرخ به توم بيترز في كتابه إدارة التحرير Liberation Management، وأن يطلقوا عقولهم لتبدع وتطرح أفكارا ذات قيمة.
أما الخطوة الثانية فتأتي في إيجاد مراكز بحث علمي R&D بكل شركة تولد أفكارا جديدة لإبداع منتجات جديدة،فليس من مبرر ألا تمارس الشركات الخليجية والعربية البحث العلمي من أجل طرح منتجات جديدة.
وإذا ما تمكنت الشركات الخليجية من حشد الطاقات الفكرية لموظفيها وتحويلها إلى منتجات فقد نستطيع وبشكل كبير تقليل الاعتماد على النفط كمصدر رئيسي للدخل القومي، و هو ما يفترض أن يكون الهاجس المقلق والأول لحكومات وشعوب المنطقة.
نقلا عن جريدة اليوم
مقال هام جداً