خريطة المياه الجغرافية تعد من أهم المراحل التنفيذية الرئيسية اللازمة لبناء مخزون استراتيجي للمياه من خلال تنفيذ برامج المسح البيئي والرصد الجوي وحصر الموارد المائية والأمطار التي تسقط على أراضي المملكة
والدليل على ذلك قوله سبحانه في مُحكم تنزيله: "وجعلنا من الماء كل شيء حي".
وللتأكيد على أهمية المياه، وردت كلمة "ماء" في القرآن الكريم 63 مرة وشملت 23 نوعاً، منها الأمطار أو الماء المنهمر والمتدفق بغزارة لقوله تعالى: "ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر".
يشكل الماء 90% من محتويات المادة البروتوبلازمية المكونة للخلية و65% من جسم الإنسان و72% من جسم الحيوان و70% من سنابل الحبوب و80% من محاصيل النشويات و95% من ثمرات الفاكهة والخضار.
وبخلاف جميع المواد السائلة، التي تنكمش وتقل أحجامها إذا انخفضت حرارتها وازدادت برودتها، يمتلك الماء خاصية فريدة ليتجمد ويصبح ثلجاً عند 4 درجات مئوية، فإذا انخفضت برودته لأقل من هذه الدرجة يبدأ حجم الثلج بالتمدد والزيادة وتبدأ كثافته بالتراجع ليصبح الثلج أقل وزناً من المياه ويطفو على سطحها.
ولولا هذه الخاصية الفريدة لأصبحت الأنهار والبحار والمحيطات كتلة من الثلج لا أثر فيها للحياة.
في الأسابيع القليلة الماضية هطلت على مختلف مناطق المملكة الشاسعة كميات متفاوتة من الأمطار الغزيرة فأثارت حفيظة النُقَّاد واشتدت الانتقادات وتزايدت وتيرة الإشاعات.
هذا في الوقت الذي لا توجد دولة واحدة في العالم، متقدمة كانت أو نامية أو فقيرة، تستطيع أن تفتخر بقدرتها على التنبؤ بكميات الأمطار الهاطلة على أراضيها، وأن تتباهى بإمكانياتها على مقاومة الأضرار المرتقبة الناتجة عن السيول الجارفة التي تواجهها.
حدة الفيضانات التي اجتاحت المملكة في الأسابيع الماضية لا تزيد في كميتها عن واحد في الألف من كمية مياه الفيضانات المماثلة التي تجتاح سنوياً دول شرق آسيا.
فخلال الثلاثين عاماً الماضية تعرضت 73 دولة في العالم للفيضانات المدمرة وعلى رأسها أميركا وكندا وأوروبا، بينما تعرضت منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ لنسبة 40% من إجمالي الفيضانات في العالم.
وشكلت هذه الفيضانات تكاليف باهظة على موارد الدول بسبب الخسائر الاقتصادية المباشرة الناتجة عنها والخسائر غير المباشرة التي تؤثر على بيئتها ومجتمعاتها.
لذا قامت جميع هذه الدول بإنشاء إدارات متخصصة لدراسة كيفية الاستفادة من مياه الفيضانات ودرء مخاطرها، ولجأت إلى تبني أنظمة متكاملة بين مختلف مستويات الجهات التنفيذية للدولة للتنسيق في تخطيط المدن وبناء السدود وإنشاء قنوات محكمة للصرف ومخازن آمنة للمياه.
تستقبل أراضي المملكة في المتوسط سنوياً 225 مليار متر مكعب من الأمطار، التي تساوي 10 أضعاف احتياجنا السنوي من المياه.
ولكن 40% من مياه هذه الأمطار تتسرب في باطن أرضنا الرملية وتتشربها تربتنا الإسفنجية، بينما يذهب 50% منها للبحر بواسطة الأودية والمكامن غير الآمنة للمياه، والباقي 10% يتم تخزينه عند السدود ليتبخر نصفه.
وبينما تستهلك المملكة حالياً 23 مليار متر مكعب من المياه في المتوسط سنوياً، فإن هذا الاستهلاك سيرتفع إلى 37 ملياراً في غضون 5 سنوات لنواجه عجزاً في عام 2018 مقداره 14 مليار متر مكعب من المياه سنوياً.
وفي الوقت الذي نسعى إلى تعويض مخزوننا المائي الأرضي النابض من خلال مشاريع تحلية المياه المالحة لإنتاج 1,5 مليار متر مكعب سنوياً بتكاليف باهظة، نجد أن الزراعة تستحوذ على نصيب الأسد من إجمالي الاستهلاك السنوي للمياه بنسبة 82%، تليها الخدمات البلدية بنسبة 10%، ثم الصناعة بنسبة 8%.
لو قامت المملكة بتجميع 10% فقط من مياه الأمطار سنوياً وتوجيه مسارات أوديتها وتخزينها داخل المكامن الجوفية الآمنة في مختلف المناطق لاستطعنا رفع مخزوننا الاستراتيجي للمياه وزيادة طاقته بنسبة 100% من احتياجاتنا السنوية للمياه.
لذا يجب أن نبدأ فوراً بإعداد خطة وطنية للمياه وبرامج استراتيجية تنفيذية تحتوي على عنصرين رئيسيين: الأول يختص بتنفيذ البرامج المباشرة التي تشمل إعداد خارطة جغرافية للمياه وإنشاء بنك للمعلومات المائية وحصر مواردها وتحديد مكامنها الآمنة.
والعنصر الثاني يختص بتنفيذ البرامج غير المباشرة التي تشمل معالجة وتنقية المياه واستبدال أنابيب توزيع المياه الهالكة لتخفيض كمية الفاقد من المياه وإعادة هيكلة مشاريع تحلية المياه المالحة.
خريطة المياه الجغرافية تعد من أهم المراحل التنفيذية الرئيسية اللازمة لبناء مخزون استراتيجي للمياه من خلال تنفيذ برامج المسح البيئي والرصد الجوي وحصر الموارد المائية والأمطار التي تسقط على أراضي المملكة.
كما يجب أن يتزامن تنفيذ هذه المرحلة مع إجراء مسح طوبوجرافي لتحديد المكامن الآمنة للمياه ودراسة أنماط الأودية وتعديل مساراتها للاستفادة القصوى من تجميع مياه الأمطار.
هذه الخطة تمنح المملكة الفرصة الثمينة لبناء مخزونها الاستراتيجي للمياه إلى جانب تعزيز كمية المياه في الآبار الجافة حالياً، وذلك خلال فترة لا تزيد عن 3 سنوات فقط بواقع 30% من مياه الأمطار الهاطلة سنوياً.
كما يتم من خلال هذه الخطة تحديث أنابيب توزيع المياه البلدية الهالكة لمنع أو تقليل كمية المياه المهدرة والتي تقدر بحدود 30% إلى 40%.
لا شك أن الخطة الوطنية للمياه تمنح المملكة الفرصة الذهبية لاستخدام مياه الأمطار في بناء مخزونها الاستراتيجي الآمن والتقليل من الحوادث المؤلمة للفيضانات والسيول وتخفيض ميزانية الدولة المخصصة لبناء المزيد من محطات التحلية، مما يؤدي إلى تعزيز قدراتنا الزراعية وتعويض مياه آبارنا الناضبة.
دعونا نستفد من مياه الأمطار لتصبح نعمةً نستفيد منها كما أراد ـ سبحانه وتعالى ـ بدلاً من تذمرنا من سيولها واتهام أوديتها ونشر الذعر والخوف من فيضاناتها بين مجتمعاتنا.
نقلا عن جريدة الوطن