روي عن ويليم اوسلر الطبيب البارع والمؤرخ الحاذق أنه قال «أفضل الطرق للاستعداد للغد أن تعمل عمل اليوم بطريقة جيدة».
رغم السيل العارم من ردات الفعل على حملة تصحيح أوضاع العمالة التي بدأت منذ أيام إلا أن الجميع متفق ضمنيا على أن هذه الجموع التي خرجت من باطن الأرض حين غفلة منا، تكشف أن المشكلة أعمق وأعقد من مجرد حملة تستمر لأيام أو أشهر... بعيدا عن التفاؤل أو التشاؤم بالنتائج المباشرة لهذه الخطوة، فإن أمرا جوهرياً بات واضحا للعيان لا يمكننا أن نتجاوزه وهو ضعف التخطيط وانعدام رؤيته الواضحة في اقتصادنا نحو أهم الملفات التي تمس رفاه الإنسان، لتكون مجرد موضوعات لاجتهادات وزارات وجهات حكومية لا تتجاوز رؤية الرجل الأول الذي يرحل دائماً بناء على طلبه!.
قضية العمالة المخالفة تراكمت على مدى سنوات لتحمل سوق العمل أعباء فاتورة أمنية واقتصادية كبيرة، تحولت مع الوقت إلى ثقب أسود يبتلع كل محاولات الإصلاح وبعث الأمل ... ففي تقرير الأمم المتحدة حول الاقتصاد الخفي تم تقديره في المملكة بـ17 في المائة من حجم الناتج المحلي الإجمالي، وفي نظري أن هذا الرقم غير دقيق إلا إذا تم حصره في الناتج المحلي غير النفطي، لكن أيا ما تكن طريقة الحساب فإن نسبة كهذه تترجم إلى مليارات كثيرة يبتلعها الثقب الأسود الخفي منذ سنوات طويلة دون أن نحرك ساكنا!!.
هذه الحملة أعادت الأمل إلى قلوب المواطنين في إعادة هيبة القانون إلى سوق العمل الفار من التنظيم والعدالة، فالآلاف من الشباب السعوديين قبعوا لفترة طويلة تحت رحمة أخطاء متراكمة أوصدت أمامهم الأبواب ورفعت الأسوار صباح كل يوم !!!، مهما تحدثنا عن إعادة الأمل فدروس التاريخ تشهد أن استمراره لا يكون إلا بالتعاهد والرعاية وهو ما يجعل تصحيح التخطيط أكثر أهمية اليوم من أن يكون سقف إصلاحات العمل هو مجرد إنهاء ملف العمالة المخالفة...
لا يمكن لوزارة محدودة الإمكانات والخبرات والصلاحيات... مجردة من التأثير الفعلي في الميزانيات المخصصة لكل وزارة أن تساهم في معالجة ملفات كبرى في البلاد فضلا عن حلها بالكامل.... كما أن وزارة التخطيط حين لا تكون متصلة بمراكز دراسات وأبحاث وقواعد بيانات إحصائية تحدث باستمرار هي مجرد وزارة بلا عمل ولا إنتاج ... أعتقد أن الوقت قد حان لتصحيح شامل يبدأ بوزارة التخطيط ويمنحها دورا بارزا في قراءة تحدياتنا ورسم طريق مستقبلنا وفق الواقع والإمكانات والظروف .... وإذا لم تبدأ خطوة إصلاح التخطيط وتعزيز سلطته وتوسيع صلاحياته فإننا سنستمر بحاجة إلى المزيد من حملات التصحيح التي لا تنتهي!!!.
قد تبدو كثيرا من أطروحات الوزارات والهيئات الحكومية واعدة وجذابة اليوم لكن كما قال اوجن جريس» رئيس شركة بيت لحم للصلب: «آلاف المهندسين قادرين على تصميم الجسور، والآلاف مثلهم قادرين على تحديد مواصفات تلك الجسور وكيف تبنى، لكن يجب البحث قبلهم عن المهندسين البارعين القادرين على تحديد أهمية بناء الجسر من عدمه ومتى وأين سيبنى؟!!
نقلا عن جريدة الجزيرة