كنت قد كتبت مقالا منذ أسبوعين عن التضخم «ارتفاع الأسعار» الذى تشهده مصر وأسبابه وتوقعاته المستقبلية. وبعد نشر المقال، تلقيت اتصالا من رئيس الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، وهى الجهة المسئولة عن حساب التضخم، معاتبا على ما ذكرته من أن الكثير من الاقتصاديين يشككون فى دقة معدلات التضخم الرسمية.
وبعد مناقشة فنية طويلة عن الطريقة المتبعة لحساب التضخم ومدى الحرص على دقة البيانات من ناحية وكذلك التحفظات على المعدلات الرسمية المعلنة من ناحية أخرى، قام رئيس الجهاز مشكورا بدعوتى لزيارة الجهاز والتعرف على تفاصيل طريقة جمع البيانات وحسابها.
وعلى الرغم من غرابة الموقف فى بداية الأمر إلا أنه بمثابة علامة جيدة على اهتمام المسئولين بالجهاز ورغبتهم فى التواصل مع المجتمع.
وبالفعل قمت بالزيارة والتعرف على الكثير من التفاصيل الفنية وكذلك مناقشة رئيس الجهاز فى طرق جمع البيانات وتحليلها حيث يقوم الجهاز بجمع أسعار آلاف السلع والخدمات بشكل شهرى من ١٠٠٨٥ مصدرا بالحضر و٤٣٣٧ مصدرا بالريف من خلال مندوبين يقومون بزيارات ميدانية لهذه المصادر ويتم التأكد من صحة هذه البيانات بأشكال مختلفة ثم جمعها وتحليلها طبقا للمعاير المتبعة دوليا وهو ما شهدت به عدة مؤسسات دولية مثل صندوق النقد الدولى الذى قام بفحص وتقييم الأسلوب المتبع فى الجهاز منذ عدة سنوات.
وعلى الرغم مما سبق ذكره من مجهود كبير وتحرٍ للدقة فى جمع البيانات وكذلك المعايير الدولية المتبعة لتجميع وتحليل الأرقام من قبل الجهاز إلا أن العديد من الاقتصاديين ومراكز الدراسات الاقتصادية داخل مصر وخارجها قد انتقدوا معدلات التضخم الرسمية لأسباب فنية متعلقة بمصادر جمع البيانات وطريقة الجمع والأوزان النسبية للمنتجات المختلفة فى سلة السلع والخدمات وغيرها من الأسباب.
كما أن هناك تحفظا مستقبليا خاصا بفرض التسعيرة الجبرية والذى قد يجبر التجار على الالتزام بالسعر الرسمى ظاهريا لكن قد يؤدى إلى الامتناع عن البيع وظهور سوق موازية لهذه المنتجات مما سيؤدى إلى ارتفاع حقيقى فى الأسعار وإن كانت البيانات الرسمية ستعجز عن رصده.
وقد تقبل رئيس الجهاز هذا النقد بصدر رحب حينما حدث النقاش حول هذه الدراسات والتى قمت بجمعها وإعطائه نسخة منها للاطلاع والأخذ فى الاعتبار مستقبلا.
لعل هذه الواقعة تأخذنا للحديث عن أحد أهم سمات الاقتصاد المصرى وهى كبر حجم «الاقتصاد غير الرسمى».
يشمل الاقتصاد غير الرسمى الأنشطة الاقتصادية التى لا ترصدها البيانات الرسمية والتى لا تدخل فى حساب الناتج المحلى ولذلك لا يتم تحصيل ضرائب عليها.
وينقسم إلى نوعين من الأنشطة فى الأساس، الأول يشمل ما لا تدركه البيانات الرسمية كليا مثل الباعة الجائلين وسائقى التاكسى والبناء المخالف للقانون الذى انتشر مؤخرا وغيرها من المهن والأنشطة الأخرى، بينما الثانى يشمل ما تدركه البيانات الرسمية جزئيا مثل قيام العديد من المؤسسات والأفراد بعدم الإفصاح عن جزء من نشاطهم من باب التهرب الضريبى.
لا يكاد يخلو بلد من وجود اقتصاد غير رسمى حتى الدول الغربية المتقدمة، لكن مصر كمثيلاتها من الدول النامية تتسم بحجم اقتصاد غير رسمى كبير.
وعلى الرغم من صعوبة تحديد حجمه إلا أن العديد من الدراسات قامت بتحليل هذا القطاع ومحاولة تقدير حجمه وقد أشارت أغلب هذه الدراسات إلى أن حجمه فى مصر قد يتراوح بين ثلث ونصف حجم الاقتصاد الرسمى، مما يعنى أن الاقتصاد غير الرسمى يشكل ربعا إلى ثلث إجمالى النشاط الاقتصادى (الاقتصاد الرسمى زائد الاقتصاد غير الرسمى).
وإذا كان هذا الحجم الكبير من النشاط الاقتصادى يتم بصورة غير رسمية، فمن البديهى توقع عدم قدرة البيانات الرسمية على رصد هذه الأنشطة وبالتالى عدم دقة الكثير من المؤشرات الاقتصادية الكلية والتى يأتى على رأسها الناتج المحلى وتوزيع الدخل والبطالة والتضخم وغيرها من المؤشرات.
من ناحية أخرى، وجود اقتصاد غير رسمى كبير الحجم لا يعنى عدم جدوى المؤشرات الرسمية، فهذه المؤشرات يتم حسابها بطريقة صحيحة وطبقا للمعايير العالمية كما سبق ذكره.
لكن يجب إدراك أن هذه المؤشرات ترصد الجزء الرسمى من الاقتصاد بدقة، بينما لا تستطيع ذلك فى الجزء غير الرسمى من الاقتصاد.
ولذلك من الحكمة التعامل مع المؤشرات الرسمية على سبيل مقارنتها بالفترات السابقة بشكل نسبى لاستخلاص التغيرات الاقتصادية مع العلم أن القيم المطلقة لهذه المؤشرات فى فترة بعينها قد لا تكون معبرة بشكل كامل، وهو ما ينطبق على أغلب المؤشرات الاقتصادية الكلية.
فعلى سبيل المثال، تظهر البيانات الرسمية مؤخرا زيادة فى معدلات التضخم وهو ما يتفق مع نتائج مراكز الدراسات المستقلة وما يشعر به المواطن العادى فى حياته اليومية وهو الأهم، لكن الشعور العام أن الزيادة الحقيقية فى الأسعار أعلى مما ترصده المعدلات الرسمية، وهو ما يوضح قدرة المؤشرات الرسمية على رصد التغيرات الاقتصادية وإن كانت القيم المطلقة لهذه المؤشرات ستظل محل جدل.
الخلاصة أن الاقتصاد المصرى يتسم بوجود اقتصاد غير رسمى كبير الحجم قد يشكل ربعا إلى ثلث إجمالى النشاط الاقتصادى.
وبسبب طبيعة الاقتصاد غير الرسمى، لا تستطع البيانات الرسمية رصد ما يحدث فى هذا الجزء من الاقتصاد مما يحد من دقة الكثير من المؤشرات الاقتصادية الكلية. ولذلك يجب النظر للمؤشرات الرسمية على سبيل القياس والمقارنة بشكل نسبى بين فترة وأخرى فى المقام الأول أكثر من النظر إلى القيم المطلقة لهذه المؤشرات فى فترة بعينها.
نقلا عن بوابة الشروق