تسعى غالبية الدول النامية – إن لم يكن جميعها – لجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، باعتباره وسيلة تمويل للتنمية الاقتصادية والاجتماعية التي قد أصبحت هدفاً رئيساً، تسعى إلى تحقيقه هذه الدول، ومنها الدول الإسلامية، من أجل زيادة دخلها القومي، ومن ثم زيادة متوسط دخل الفرد، والارتقاء بمستواه المعيشي.
باعتبار أن تحقيق هذه الأهداف، والغايات النبيلة يتطلب توفير موارد مالية، تفوق في الغالب ما يمكن تعبئته من مدخراتها المحلية، التي تتسم أصلاً بالضعف، بسبب ضعف متوسط دخل الفرد حيناً، وتسرب بعضها في أغراض غير اقتصادية حينا آخر, وهروبها إلى الخارج تارة، لتحرم بلدانها من الموارد المالية المتاحة، التي يمكن الاستفادة منها في تمويل الاستثمار المحلي.
الأمر الذي يجعل العديد من الدول الإسلامية مضطرة لا محالة إلى الاستعانة بمصادر التمويل الدولي، ومنه الاستثمارات الأجنبية المباشرة، كي تشارك هي الأخرى في تمويل التنمية الاقتصادية التي تعتبر التحدي الكبير الذي يواجه جميع الدول الإسلامية.
ولتحقيق الهدف من الوصول الى الغاية من هذا الموضوع وسهولة فهمة سيتم تقسيمه إلى عدة أقسام وهى
أولاً : تعريف الاستثمار الأجنبي .
ثانياً: أهم أشكال الاستثمار الأجنبي .
ثالثاً: الآثار المحتملة للاستثمار الأجنبي على اقتصاد الدولة
أولاً: تعريف الاستثمار:
أ- الاستثمار في اللغة: مشتق من الثمر، أي حمل الشجر وأنواع المال، ويقال: ثمر الرجل ماله: نماه, وأثمر الرجل: كثر ماله.
ب مفهوم الاستثمار الأجنبي من المنظور الاقتصادي المعاصر: ذهب بعض الكتاب إلى تعريف الاستثمار الأجنبي المباشر بأنه "تكوين منشأة أعمال جديدة, أو توسيع منشأة قائمة، وذلك عن طريق مقيمي دولة معينة ضمن حدود دولة أخرى أو بأنه نشاط استثماري طويل الأجل يقوم به مستثمر غير مقيم في بلد مضيف، بقصد المشاركة الفعلية أو الاستقلال بالإدارة والقرار
وانتهى كتاب آخرون إلى تعريفه بأنه "الحصة الثابتة للمستثمر المقيم في اقتصاد ما في مشروع مقام في اقتصاد آخر.
وبشكل عام فان تلك التعاريف كلها تفيد أن الاستثمار الأجنبي المباشر هو: المال الوافد إلى دولة غير دولته، بقصد الحصول على الربح.
ثانياً: أهم أشكال الاستثمار الأجنبي:
يأخذ الاستثمار الأجنبي عدة أشكال لعل من أهمها:
1- مشروعات ملكيتها مشتركة (الاستثمار المشترك):
وتعتبر هذه المشروعات مشتركة بين المستثمر الأجنبي والمستثمر المحلي, وبنسب متفاوتة, تتحدد وفقا لاتفاق الشركاء، وحسب القوانين المنظمة لتملك الأجانب, حيث تنص قوانين كثير من الدول التي يقام فيها المشروع المشترك على أن لا تتجاوز نسبة المستثمر الأجنبي عن 49% من رأس مال المشروع, وذلك تفادياً للهيمنة الأجنبية على جانب مهم من مشروعات الاقتصاد المحلي.
إذ أن الدول التي تستضيف الاستثمارات الأجنبية تحرص على أن تكون القرارات التي يتم اتخاذها في إطار الاستثمار الأجنبي تأخذ في اعتبارها المصالح الحيوية والهامة لاقتصادها المضيف, وعادة يكون تحقيق هذا الهدف من خلال الاستثمار المشترك متاحاً أكثر مما لو كان المشروع مملوكاً بالكامل للمستثمر الأجنبي, وما قد يثيره ذلك من شك وريبة ضد السيطرة الاقتصادية للمستثمر الأجنبي.
2 - مشروعات تملكها الشركات الأجنبية بالكامل في الاقتصاد المضيف:
وهذا الشكل من الاستثمارات يتيح للعنصر الأجنبي السيطرة الكاملة في اتخاذ القرار, ولهذا لا تحبذه الكثير من الدول المستثمر فيها, خشية أن يؤدي إلى التبعية والهيمنة الاقتصادية من قبل المستثمر الأجنبي.
3- الشركات المتعددة الجنسية:
وهي الشركات التي تملك مشاريع كثيرة، في دول مختلفة من العالم، حيث تتميز هذه الشركات بضخامة أعمالها وأنشطتها، "ويمكن القول بأن الاستثمار الأجنبي المباشر والشركات متعددة الجنسية شيئان متلازمان، اعتاد الاقتصاديون على الجمع بينهما بطريقة مترادفة.
وتعد ظاهرة الاستثمار الأجنبي المباشر عن طريق الشركات المتعددة الجنسية، أو ما يسمى بعابرة القوميات، من أبرز الظواهر التي طرأت على صعيد العلاقات الاقتصادية الدولية، خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة.
ورغم ما يثار حول الاستثمارات الأجنبية المباشرة من جدل واسع، وغالباً ما كان ينظر إليها في الماضي بنظرة يشوبها الحذر والسلبية، لاسيما من أصحاب الفكر الماركسي، فقد أصبحت مؤخراً مصدراً من مصادر التدفقات المالية المعاصرة، الذي لا غنى عنه للتنمية الاقتصادية في الدول النامية.
فلقد ارتفعت نسبة هذا الاستثمار خلال الفترة 1981 – 1997م لمجموع التدفقات المالية للدول النامية من 13% إلى 38%.
وقد أخذت الدول النامية، بما فيها الدول الإسلامية، تتسابق في جذب المزيد من هذا النوع من التدفقات – بعد إدراكها لإيجابياته – وذلك عن طريق منحه مختلف الامتيازات والإعفاءات، كما تكشف ذلك قوانين تشجيع الاستثمار الأجنبي، التي صدرت في العديد من هذه الدول
ثالثاً: آثار الاستثمار الأجنبي على اقتصاد الدول المضيفة:
لا يخفى أن هناك نقاش طويل بين الاقتصاديين حول أهمية الاستثمار الأجنبي في الاقتصاد المضيف, حيث يؤيد فريق استقدام رأس المال الأجنبي، نظراً لحاجة الدول النامية إليه، الذي طالما شكل نقصانه عقبة رئيسة أمام تطورها ونموها, وفريق آخر يحذر من تشجيعه، ويرى أنه ما هو إلا نوع من الاستعمار الجديد، الذي يهدف إلى استغلال ونهب الفائض الاقتصادي للعالم النامي.
الأمر الذي يفرض علينا قبل بيان موقف الشريعة الإسلامية من هذه الاستثمارات، أن نقف جلياً على أهم الآثار المحتملة لها على الاقتصاد المضيف، بشيء من التفصيل، وذلك على النحو التالي:
1- الآثار السلبية المحتملة للاستثمارات الأجنبية المباشرة.
2- الآثار الإيجابية المحتملة للاستثمارات الأجنبية المباشرة.
أ- الآثار السلبية المحتملة للاستثمارات الأجنبية:
الواقع أن الاعتماد على الاستثمار الأجنبي الذي تقوم به في الغالب الشركات متعددة الجنسية, ليس في حد ذاته خيراً محضاً، بل ترد عليه عدة انتقادات منها.
(1)صعوبة توافق إستراتيجية المستثمر الأجنبي مع إستراتيجية التنمية في الدول النامية, من حيث أولويات الاستثمار, حيث قد تتجه الاستثمارات الأجنبية في الدول النامية نحو القطاعات الهامشية، التي تدر ربحاً وفيراً وسريعاً، ولا تخدم عملية التنمية على الوجه المطلوب, مثل النشاطات السياحية، والتجارية، والمصرفية، وما إليها, وقد تتجه نحو إنتاج نوع معين من المنتجات الأولية, يوجه للتصدير إلى البلد الذي انساب منه رأس المال، مما يؤدي إلى أن يصبح الاقتصاد المحلي مجرد مراكز أمامية لاقتصاد أجنبي, أو اقتصاداً ثنائياً.
وحين تهتم بالصناعة فإنها تنتج سلعا لا تستجيب لاحتياجات الجماهير الشعبية، ولا تكون في متناول دخولها, وإنما تستهلكها طبقة الصفوة، أو النخبة في هذه الدول، الأمر الذي لم يقتصر أثره على استمرار ظاهرة الازدواج في الاقتصاد الوطني, وإنما يمتد إلى خلق أنماط استهلاكية جديدة في المجتمع، تعززها الإعلانات التجارية، التي تقوم بدور فعال في تسويق منتجات الاستثمار الأجنبي المباشر.
(2)يؤدي اختلال توازن علاقات القوى بين أي شركة دولية عملاقة ودولة نامية إلى مساومة غير متكافئة بينهم, حيث أن المستثمر الأجنبي يمتلك من القوى الاحتكارية والقدرات المالية والتكنولوجية ما يفوق قوة معظم الدول النامية, مما ينتج عنه غبن وإجحاف في حقوق ومكاسب الطرف الأخير, حيث قد يفرض المستثمر الأجنبي ثمناً باهظاً نظير ما يقدم من معرفة تقنية، حقيقية كانت أو وهمية, وقد يلجأ إلى التلاعب بالأسعار، وذلك عن طريق رفع أسعار السلع والخدمات المستوردة من أحد فروع الشركة الأم في الخارج، وتخفيض أسعار السلع المصدرة إليها بأقل من قيمتها السائدة في السوق، كوسيلة مستترة لتضخيم الأرباح المتحققة لصالح الشركة الأم، وإخفائها عن الشركاء المحليين، أو تحاشي جهاز الضرائب في الدولة المضيفة، وتبديد الدخول الضريبية، التي من المفترض أن يحصل عليها الاقتصاد المضيف.
(3)تؤدي مركزية اتخاذ القرارات للشركات المتعددة الجنسية في دولة المقر إلى الميل في استيراد المواد والسلع والكفاءات البشرية وغيرها من عوامل الإنتاج من مشاريع الشركة الأجنبية في الخارج، بالرغم من وجودها في السوق المحلية المضيفة لهذه الشركات, الأمر الذي يترتب عليه إهمال مصادر العرض المحلية لهذه السلع والعوامل, والإخفاق في تنمية المهارات الإدارية المحلية.
(4)قد تؤثر الاستثمارات الأجنبية المباشرة سلباً على موازين مدفوعات الدول النامية, نتيجة تحويل أرباحها كلها أو معظمها إلى الخارج, وكما تشير بعض الدراسات "أنه خلال الفترة 1978 - 1990 تدفق إلى الدول النامية استثمارات تقدر بحوالي 6 مليارات دولار، أسفرت عن أرباح وفوائد ورسوم تدفقت إلى الدول المتقدمة قدرها 13 مليار دولار مما يعني تدهور الحساب الجاري والرأسمالي لميزان المدفوعات، خصوصاً في حالة مغالاة المستثمر الأجنبي في تكلفة واردات المشروع من السلع الرأسمالية، التي غالباً ما يكون مصدرها الشركة أو الدولة الأم.
(5)يمكن أن تؤدي الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى منافسة الصناعات المحلية, وهي في مركز تنافسي ضعيف، مما قد ينتج عنه كساد، أو انهيار الصناعات الوطنية الناشئة، أو الصغيرة الحجم.
(6)يمكن أن تساهم الاستثمارات الأجنبية المباشرة في تفاقم تلوث البيئة، من خلال توطنها في بعض الأنشطة والصناعات الملوثة للبيئة, "مثل الصناعات الاستخراجية النفطية, والتعدينية والغاز الطبيعي والصناعات البتروكيماوية وصناعة الإسمنت والأسمدة, بدلاً من توطنها في دولها, حيث تخضع هذه الاستثمارات الأجنبية في دولها لمعايير بيئية مشددة, بسبب تزايد الاهتمام الرسمي والشعبي بهذا الأمر, في حين لا يوجد أدنى اهتمام بذلك في معظم الدول النامية .
(7)وأخيراً تتهم الشركات متعددة الجنسية بممارسة الأساليب غير المشروعة، أو الملتوية لإفساد الحياة السياسية داخل الدولة المضيفة, وذلك عن طريق تقديم الرشاوي، لشراء ذمم الساسة, ومتخذي القرار, وحملهم على قبول شروط أكثر غبناً, أو إغماض العين على مخالفات قانونية, أو دفع أثمان أعلى, أو شراء سلع أقل جودة.
ب – الآثار الإيجابية المحتملة للاستثمارات الأجنبية المباشرة:
ليس من الحكمة رفض الاستثمارات الأجنبية المباشرة, وتصويرها على أنها شر مستطير, يهدد الاستقلال الاقتصادي للدول الإسلامية, حيث أن لهذه الاستثمارات مزايا محتملة, إذا ما أحسن توجيهها ومراقبتها, نذكرها بشي من التفصيل:-
1.لعل أبرزها أن تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر لا يشكل عبئاً جامداً على الاقتصاد المضيف، كالمدفوعات التي تدفعها الدولة على القروض الخارجية، ولهذا فهي تعتبر بديل ناجح للقروض الخارجية الربوية، التي هي من منظور إسلامي خسارة محققة الوقوع، لأن من يتعامل معها موعود بحرب من الله ورسوله، كما في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون من هناك خسارة أعظم من هذه الخسارة.
2.تساهم الاستثمارات الأجنبية المباشرة في سد أربع فجوات رئيسة في اقتصاد الدول النامية.
أ- فجوة المدخرات المحلية اللازمة لتمويل البرامج الاستثمارية الطموحة.
ب- فجوة النقد الأجنبي اللازم لاستيراد الآلات والمعدات والخبرات الفنية التي تحتاجها عملية التنمية.
ج- الفجوة التكنولوجية لسد حاجة الدول النامية من الآلات، والمعدات، والخبرات والمعارف الفنية، والتنظيمية، والتسويقية، الأمر الذي يساعد في تحول الاقتصاد النامي إلى الإنتاج الصناعي، وفي الدول الإسلامية تجارب مهمة، فإلى جانب البترول هناك الصناعات البتروكيماوية، القائمة في عدد منها على أساس المشاركة مع شركات أجنبية.
فضلا عن استفادة العديد من هذه الدول من الاستثمار الأجنبي في تطوير البنية الأساسية، كالطرق، ومحطات توليد الكهرباء، ومشاريع الري والمياه، والموانئ، والمطارات، وغيرها من المنافع، التي ما كان لها أن تتحقق في غياب الاستثمار الأجنبي المباشر.
د- الفجوة بين الإيرادات العامة والنفقات العامة، حيث تؤدي الاستثمارات الأجنبية إلى حصول الدولة المضيفة علي إيرادات جديدة، في صورة ضرائب جمركية، وضرائب على الأرباح، تزيد من إمكاناتها على الإنفاق، ومن ثم في سد فجوة الإيرادات التي تعاني منها.